إستثمرت الوقت الطويل المتاح لي للقراءة في الطائرة العائدة من مطار جون كيندي في نيويورك وهي تحلق فوق أخطر بركان حجب الرؤية، وعطل حركة الطيران فوق المحيط بين أمريكا وأوربا، وقرأت مجلات عدة كانت مخصصة للإحتفاء بالفتى الأسمر، أو نمر الشاشة الراحل أحمد زكي الذي كان غادر الحياة قبل فترة وجيزة، وترك إرثا فنيا رائعا أرخ لمراحل سياسية صعبة ومعقدة.
دون تحضير مسبق كنت أردد: كلنا فاسدون. فيأتيني توبيخ من أحدهم: لاتعمم رجاءا. وأفهم ذلك فكل إنسان يرى في نفسه نبيا، ويغفل عن أخطائه، وينشغل بأخطاء وعيوب الآخرين، فيتوهم أنه صح كامل، وسواه يخطأ ويصيب، ويكاد ذلك أن يكون عادة بشرية يمارسها الناس، وكنت شاهدت فيلم (ضد الحكومة) الذي لعب فيه أحمد زكي دور محام في قضية مقتل تلاميذ في حافلة مدرسة، وكان زكي يخاطب هيئة المحكمة معترفا بأنه مارس المحاماة من أجل المال ودافع عن مجرمين ولصوص وسفلة وقتلة، ولكنه يعترف بهزيمته امام هول الجريمة التي أودت بحياة مجموعة تلاميذ، وطالب بإنزال أشد العقوبات بحق المتسببين بالكارثة، ثم يصرخ: كلنا فاسدون، كلنا فاسدون.
كلنا فاسدون لأننا منحازون ولو سرا لطائفتنا ولقوميتنا ولعشيرتنا، ونظهر خلاف ذلك، مدعين الإعتدال والتسامح، فاسدون لأننا نفخر بمجرمين ينتمون لطوائفنا وقوماياتنا ومصالحنا، فاسدون لأننا مازلنا نمجد دكتاتورا وطاغية، فاسدون لأننا لم نر سجون الحكومات العراقية المتعاقبة منذ 1920 والى اليوم إلا وهي مكان لمجرمين وعملاء وخونة ماداموا عارضوا حكما قريبا من توجهاتنا، ونشعر أن هذا الحاكم هو جزء من روحنا، ونتجاهل جرائمه، ونراه قديسا وقائدا بطلا، وننكر السجون والمقابر والزنازين والتهجير والموت البطئ والمرض والحرمان، فاسدون لأننا نغض الطرف عن السلوك المنحرف مادام لايضر بمصالحنا، فاسدون لأننا نناضل ضد حكم فاسد، فنتحول الى فاسدين حين نشغل مكانه، فاسدون حين نتجاهل القوانين والتشريعات، وحين ندافع عن منتهكي الأعراض، واللصوص، فاسدون لأننا منحازون، وطائفيون، ونغطي طائفيتنا بالشعارات الوطنية، ولكننا لانتحمل أن ينافسنا أحد، أو أن يشاركنا أحد، فاسدون لأننا لانمنح الفرص للآخرين ليعبروا عن وجودهم وإنسانيتهم، فاسدون لأننا نعمل مع فاسدين، أو نجامل ونحابي فاسدين، ولأننا نبحث عن فرص حياة في ظل فاسدين، فاسدون لأننا نسكت، ونحابي، ونتغابى، ونتجاهل، ولاننتفض من أجل حقوقنا ممن سلبها منا.
فاسدون لأسباب كثيرة كل واحد منا لديه المئات منها ويخفيها ويتجاهلها إحتراما لشيطانه. فاسدون لأننا جبناء وخائفون.
أقرأ ايضاً
- لماذا يطالب الفاسدون بمحاربة الفساد؟
- لن يجني ثمارها الفاسدون وأصحاب الصفقات
- من هم الفاسدون بنظر السيد عادل عبد المهدي !