- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
رئيس هيئة النزاهة الاسبق يكتب:الفاسدون بين نظريتي حسن الظن وسوئها
د. حسن الياسري
الحلقة الأولى:
(وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون).
بالنظر لورود بعض الأسئلة من بعض الإخوة الكرماء حول تفاصيل ما أُعلن عن استرداد الهيئة لعقارٍ من أحد المسؤولين الى ملكية الدولة مؤخراً، وحول بعض تفاصيل وتداعيات ملف مكافحة الفساد خلال عملنا في السنوات الثلاث المنصرمة، فقد ارتأينا أن نوضح تلك التفاصيل، ونميط اللثام عن بعض الأمور؛ إجابةً للإخوة الأعزاء، وخدمةً للمصلحة العامة.. والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل...
ابتداءً لم نشأ الحديث سابقاً عن موضوع العقار المذكور، وذلك احتراماً للقضاء وتربصاً لصدور حكمه. وما دام القضاء قد نطق بالحكم البات فالإيضاح أصبح مطلوباً..
إن قضية حصول هيئة النزاهة على القرار القضائي لاسترداد هذا العقار وإعادته الى ملكية الدولة تعود إلى أن الهيئة كانت قد حققت في هذه القضية في نهاية عام 2015، وذلك عندما فتحنا ملف تضخم الأموال أو الكسب غير المشروع - أو كما يُعرف بمبدأ من أين لك هذا -. إذ تمت إحالة العديد من المسؤولين الكبار إلى القضاء بهذه الدعوى - تضخم الأموال -، وعلى رأسهم نواب رئيس الوزراء الثلاثة الذين كانوا في السلطة آنذاك، وكذا بعض الوزراء والدرجات الخاصة. وقد كانت قضية العقار محل السؤال تمثل إحدى القضايا التي وجهتها الهيئة الى أحد نواب رئيس الوزراء آنذاك.
حيث تم تمليك قطعة ارض الى زوجة المومأ إليه من أمانة بغداد في منطقةٍ مميزةٍ -العطيفية - بسعرٍ بخس، ثم أُلحقت بها قطعةٌ أخرى بجانبها كانت حديقةً عامةً، رغم اعتراض الأمانة على ذلك لكون القطعة الثانية كانت مخصصةً للمنفعة العامة، فتم توحيد العقارين، ثم بعد مدةٍ وجيزة بيع بسعرٍ كبيرٍ جداً..
ولما وجدت الهيئة بالدليل أن هذه القضية كانت مخالفةً لقانون بيع وإيجار أموال الدولة وللضوابط القانونية، الأمر الذي حدا بها إلى توجيه دعوى الكسب غير المشروع على حساب الشعب والمصلحة العامة للمومأ اليه، وقد أحيلت القضية الى القضاء في نهاية عام 2015.. وصدر الحكم حالياً من محكمة استئناف بغداد -الكرخ - الاتحادية القاضي بإبطال قيد تسجيل العقار السابق وإعادة ملكيته إلى الدولة - ممثلةً بأمانة بغداد -.
وبإزاء ما يُستفاد من هذه القضية، وإجابةً عن أسئلة الإخوة الأعزاء، يمكن أن أحدِّد النقاط المهمة الآتية:
1- إن هيئة النزاهة في العراق عُدّت بهذا العمل، وأمثاله، الأولى على المستويين العربي والدولي، التي توجه دعوى تضخم الأموال أو الإثراء غير المشروع على حساب الشعب لثلاثة مسؤولين كبار في سدة السلطة يشغلون منصب (نائب رئيس الوزراء) دفعةً واحدةً، فضلاً عن وزراء آخرين ودرجاتٍ خاصةٍ!!!
ومَنْ يعرف من المتخصصين والمتابعين وذوي الشأن هيئة نزاهة أو هيئة مكافحة فساد في العالم سبقتنا الى ذلك، سواءٌ في أوربا أو اميركا أو غيرها، فلينورنا بذلك وسنكون له من الشاكرين!!! مع أن الإمكانات كلها متاحةٌ أمام تلك الدول، وغير متاحةٍ أمامنا البتة!!
2- لقد أحيلت هذه القضية إلى القضاء في نهاية عام 2015، ولم يصدر الحكم القضائي إلا في منتصف تشرين الثاني 2018، ما يعني بعد ثلاث سنوات تقريباً... الأمر الذي - ربما- أضعف القضية في شعور بعض الناس الذين سبق أن سمعوا خبر إحالة القضية منذ عام 2015. ورغم تحملنا مسؤولية هذا الملف المهم والخطير الذي يُفتَحُ لأول مرةٍ في تأريخ العراق بهذه الخطورة، إلا أن هذا الفاصل الزمني جعل بعض الناس ينسون هذه القضايا تارةً، أو يتهمون الهيئة بأنها أغلقتها تحت الضغط تارةً أخرى؛ تأثراً بما يقوله الفاسدون!!
ورغم معرفتنا بأن الإجراءات القضائية تستغرق بطبيعتها وقتاً، لكننا تمنينا أنْ لو كان الحكم القضائي قد صدر في عام 2016 مثلاً، لما تحظى به هذه القضايا من أهميةٍ وخطورةٍ، ولما لها من الأولوية على بقية القضايا في دول العالم التي اختطت طريق مكافحة الفساد، إذ ربما كانت أمورٌ كثيرةٌ قد تغيرت في حينها في ملف مكافحة الفساد، حيث كان من الممكن أن تكون رادعاً قوياً للذين يتجاوزون القانون. وقل مثل ذلك بالنسبة للقضايا الأخرى المشابهة التي تحملت مسؤوليتها الهيئة وتصدت لها إبان تلك المدة!!
3- هل سمعتم طيلة السنوات الثلاث المنصرمة من عمر هذه القضية والقضايا الأخرى من أشاد بجهود الهيئة أو وقف الى جانبها.. وها هي الأصوات المعروفة لديكم التي تصدح ليلاً ونهاراً بمكافحة الفساد، فكم واحداً منهم سمعتم أنه وقف إلى جانب الهيئة في هذه القضية في الأقل، ولا سيما أن التحقيق كان موجهاً إلى شخصٍ يحمل صفةً رسميةً كبيرةً- نائب رئيس الوزراء -!!
إن الذي حدث هو العكس تماماً، حيث تعالت الأصوات للنيل من الهيئة وأثيرت ضدها الطعون والأكاذيب عبر وسائل الاعلام، والحقيقة كانت مغيّبةً عن الناس؛ تأثراً بموجة الإعلام الأصفر!! وقل مثل ذلك في مئات القضايا التي فتحتها وحققت فيها الهيئة!!!
4- تسمعون بين الفينة والأخرى بعض الأصوات التي تدعي في ظاهرها مكافحة الفساد - وفي باطنها شيءٌ آخر معروفٌ -، كانت طيلة السنوات الثلاث المنصرمة تكذب على الناس وتقول (إن الهيئة تركض وراء الموظف البسيط والشرطي وما تقرب من الكبار)!!
وربما صحت بعض أجزاء هذه المقالة قبل عام 2015، لكنها تغيرت تماماً بعد الاستراتيجية الجديدة التي انتهجناها بعد تولينا في عام 2015.. ولكن بسبب بساطة بعض الناس وعدم متابعتهم لعملنا الناجم عن عدم تغطية الإعلام لجانبٍ كبيرٍ منه وبسبب عدم دقة البعض في تحري المعلومة، كل ذلك أسفر عن تصديق الناس لمثل هذه الاكاذيب!! ورغم إيضاحاتنا المستمرة طيلة ثلاث سنوات، لكن للأسف ما زالت مثل هذه الأصوات تنعق!!!
وهنا من حقنا أن نسأل، وغيرنا هو الذي يجيب:
هل نواب رئيس الوزراء الثلاثة والوزراء وأعضاء مجلس النواب والمحافظون ورؤساء مجالس المحافظات وأعضاء هذه المجالس والوكلاء والدرجات الخاصة الذين حققت معهم الهيئة في عشرات ومئات القضايا خلال السنوات الثلاث المنصرمة هم موظفون صغار!!!!
وهل أن واجب الهيئة ينتهي عند اكتمال التحقيق - كما ينص القانون على ذلك -، أو أنها هي التي تصدر الحكم ؟؟
وبإزاء هذه الأصوات المغرضة المتعالية ضد الهيئة فإننا سنكون أمام أحد احتمالين أو إحدى نظريتين:
الأولى: نظرية حُسن الظن:
إذا أخذنا بنظرية حسن الظن بهذه الأصوات، فهذا يعني أنها تعيش في عالمٍ آخر، ولا تدري ماذا يحدث في العراق، فهؤلاء لا يعلمون ولا يتابعون ولا يقرأون ولا يسمعون، ومثلهم كمثل (النايم ورجليه بالشمس)!!
فهل يُعقل أن أحداثاً تحقيقيةً كبيرةً بهذا المستوى زلزلت البلد (ولو كانت في بلدٍ آخر لأفضت إلى إسقاط الحكومة بلا ريب) وهم لا يعلمون بها، رغم صفتهم الرسمية، ورغم قيامنا بإشعارهم بها باستمرار عبر التقارير التي كنا نرسلها إلى كل واحدٍ منهم عبر صندوقه البريدي في البرلمان!!
أليس الأمر يخفي وراءه حقيقةً مرّةً!!
أليس ثمة أمرٌ مريبٌ يكمن خلف الستارة!!
وهل مثل هؤلاء يمكن أن يستمع اليهم أحدٌ بعد ذلك!!
الثانية: نظرية سوء الظن:
إذا أخذنا بنظرية سوء الظن، فهذا يعني أن هؤلاء يعلمون علم اليقين ما هي الحقيقة، لكنهم - أو بعضاً منهم - فاسدون أو أذنابٌ للفاسدين!! وإنهم ليسعون بطريقتهم هذه إلى تحويل اتجاه وبوصلة الناس والجمهور من الوقوف إلى جانب الهيئة ودعمها في تحقيقاتها ضد الفاسدين، إلى التشكيك بها والنيل منها والطعن بها؛ ثأراً لأذنابهم وسادتهم الفاسدين!!! فتكون المحصلة أن الرأي يكون مُضَلَّلاً والصورة تُصبح مشوشةً لدى الناس، ومن ثم لا تمييز بين الفاسد وبين من تحمّل وتصدّى لمسؤولية الوقوف بوجهه، فالاثنان أصبحا بمنزلةٍ سواء لدى أغلب الناس، وهذا هو هدف الفاسدين ومرامهم، ولقد نجحوا فيه للأسف الشديد!!!!
5- ثم مَنْ مِن هذه الأصوات التي تتطاول على النزاهة، كانت لديه القدرة والشجاعة في عام 2015 للتحقيق مع أكبر ثلاثة مسؤولين في الدولة وزعماء في أحزابهم.. وعلى فتح آلاف القضايا التي شملت جميع من يعمل في العراق من الأحزاب والاتجاهات والحركات السياسية، حتى وصل عدد القضايا التي حققت فيها الهيئة خلال السنوات الثلاث المنصرمة إلى أكثر من (29) ألفاً، شملت (34) ألف متهماً، منهم (48) وزيراً من الحاليِّين (وقت فتح التحقيق) والسابقين، و(48) نائباً و(39) محافظاً و(438) عضو مجلس محافظة و(624) مديراً عاماً، واستردت وحافظت على أكثر من خمسة تريليون دينار، فضلاً عن صدور آلاف أوامر القبض والاستقدام التي شملت العشرات من المذكورين أعلاه، ناهيك عن ملف عقارات الدولة الذي أسفر عن استرداد عشرات العقارات المسلوبة إلى ملكية الدولة بلغت أقيامها عشرات المليارات، وملف متابعة الذمم المالية للمسؤولين، وكذا ملف استرداد بعض المحكومين الكبار في الخارج لأول مرةٍ.. وغير ذلك الكثير ممَّا نشرناه سابقاً في التقارير التي كانت تُعرض أمام الملأ بكل شفافيةٍ والمنشورة والموزَّعة على جميع المعنيين، بما فيهم الإعلاميون أيضاً!!
ويبقى السؤال قائماً، ما الذي حصل عليه الشعب من بعض هذه الأصوات غير تكرار التصريحات التي لم تأتِ بشيءٍ جديدٍ منذ عام 2003، تلك التصريحات التي يعرفها ويمكن أن يتحدث بأحسن منها أي مواطن عراقي بسيط ؟!!
ولعل بعض الذين ما زالوا يكذبون على الناس ويسطرون أكاذيبهم المستمرة ضد النزاهة - كما يحصل يومياً - هم في واقع الأمر قد حققت معهم الهيئة أو مع أحد أفراد حزبهم أو اقربائهم، أو انهم أُقصوا من الوظيفة؛ بسبب تلك التحقيقات، أو حُرموا بسببها من فرصة الحصول على منصبٍ معين كانوا يسعون إليه، وما شابه ذلك ممَّا خفي أمره على الناس وعلمناه من واقع التجربة!!
ولكون هؤلاء متضرِّرين من تحقيقات النزاهة؛ فليس أمامهم لإخفاء فسادهم وكذبهم سوى الطعن بالهيئة والتشكيك بها، عبر أكاذيب متعددةٍ ومتنوعةٍ أصبحت مثل المعزوفة لديهم، فتارةً يقولون إن الهيئة مُسيّسةٌ، وثانيةً إن رئيسها قياديٌ في حزب الدعوة أو في كتلة مستقلون، وثالثةً إن البعض يضغط عليها لفتح هذا الملف وغلق ذاك، ورابعةً إنهم أعطوها ملفاتٍ ولم تتحرك بإزائها، وخامسةً وسادسةً ووو.. الخ!!!!
وكلُّ تلك الأكاذيب والأراجيف إنما لفّقوها؛ بسبب الصفعة القويَّة التي وجَّهتها لهم الهيئة، والتي جاءتهم من حيث لا يحتسبون ولم يكونوا لها مُتوقِّعين، لهذا سيقت هذه الأكاذيب؛ كي يُصوِّروا للناس أنهم -أو من يمتّون اليهم بصلةٍ - ضحيةٌ للتحقيقات التي أجرتها الهيئة، وأنهم ليسوا فاسدين أو كاذبين، ومن ثم فهم جديرون بهذا المنصب أو ذاك. وإنهم ليعلمون أنهم لن يصلوا إلى مرادهم هذا إلا بإثارة الناس ضدَّ الهيئة بهذه الأراجيف، كما كنا -وما زلنا- نلمس ذلك يومياً في وسائل الإعلام، مستغلين في عملهم هذا - للأسف الشديد- طيبة الناس وعدم تحري أغلبهم عن المعلومة الصحيحة!!!
إن مثل هذه النماذج السيئة لن تتردد في سلوك كل طريقٍ فاسد، فهم لا خلاق لهم ولا أخلاق!! حتى وصل مستوى الكذب والاستهزاء بعقول الناس أن يكذب - بعض- هؤلاء جهاراً نهاراً وبكل صلافةٍ مدّعين بأنهم قدموا الملف الفلاني، أو أن الهيئة لم تعمل شيئاً ولم تحرك ساكناً تجاه ما قدموه لها، كما حصل قبل بضعة أيامٍ من أحدهم.. مع أن الهيئة لم ترَ وجوههم ولم يقوموا بمراجعتها ولو مرةً واحدةً طيلة السنوات الثلاث.. وكفى بذلك خزياً لهؤلاء الأفاكين!!!
وللحديث تتمة غداً إن شاء الله..
أقرأ ايضاً
- فازت إسرائيل بقتل حسن نصر الله وأنتصرت الطائفية عند العرب
- النفط.. مخالب في نوفمبر وعيون على الرئيس القادم لأمريكا
- لا مكان لـ "حُسْن الظن" في السياسة