علي حسين الخباز
للمواقف عقول تروي حكمة الدهور، دون النظر الى نتيجة الموقف أو حجم تضحياته، وبهذا الحساب أكون الذي أنقذت النصارى من نيران مباهلة، كادت تقضي عليهم الى أبد الآبدين، أمهلني فرصة كي أروي لك ما حدث.. أرسل لي أبو حارثة وهو أسقف نجران وكبيرها..
:ـ ما الذي تريده مني؟
:ـ أريد أن استأنس برأيك يا شرحبيل بن وداعة، ونحن نعيش لحظات لابد للعقل من حضور، وأنت عقل نجران الذي به نستنير..
:ـ ما الذي جرى يا أبا حارثة؟
:ـ قدمت على محمد بثلاثين من النصارى فسألته:
يا محمد، ما تقول في السيد المسيح؟
فقال:ـ عبد الله اصطفاه وانتجبه.
:ـ أتعرف له يا محمد أباً؟
فقال:ـ لم يكن عن نكاح فيكون له والد.
قلت:ـ فكيف قلت إنه عبد مخلوق، وأنت لم ترَ عبداً مخلوقاً إلا عن نكاح وله والد؟
وقال حينها:ـ أنزل الله تعالى: ((إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * الحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ)).
لاحظت أن أبا الحارثة حيران بالأمر، بل أحسسته مرعوباً، لا يقدر على إتيان حرف، قلت له:ـ أتعرف ماذا يعني هذا يا أبا حارثة؟
:ـ ماذا تعني يا شرحبيل؟ اشحذ همة عقلك، وأنر خفايا الموقف.
:ـ يعني أنّ صراعنا وصل الى طريق مسدود، فلهذا اختار محمد اسلوباً آخر للحوار، ليس فيه مجاملة، ولا مداهنة، فاختاروا اليوم الموعود، ولا تتصرفوا إلا بمشورتي، وبقيت أترقب كل حركة أفسرها بمنطق العقل.
الموعد قريب.. لقد اختاروا يوم 24 من شهر ذي الحجة، ليكون هو يوم الفصل، موعد المباهلة، اصحو لكل فكر قبل أن تنفجر براكين الأرض.. الأبصار ترقبني وأنا أرقبه هو فأرى ثغراً باسماً، وجبيناً مشرقاً، ووجهاً أغر، يشع من وجهه النور.
يا أهل نجران، دعوني انصحكم وأنا شرحبيل بن وداعة فاسمعوني.. انتم امام قضية وجود، ولا وجود لكم بعدها، فإن باهلكم بأهل بيته خاصة، فلا تباهلوه؛ لأنه لا يقدم على اهل بيته إلا وهو صادق، فما تقول يا أسقف نجران؟
:ـ اعتقد انه سيخرج معه للمباهلة، اهل الكبر والشدة من أتباعه، وأهل الغنى والمال والثروة من أصحابه.
قلت:ـ لا تستعجل الحكم يا أسقف نجران وتمهل، قفوا يا اهل نجران وتماسكوا، فانه خرج يحتضن الحسين، ويمسك بيمناه الحسن، وخلفه بضعته الزهراء مغشاة بملاءة من نور الله، وهذا علي يمشي خلفها باهر الجلال، يرتدي بردة من مهابة الله.. أقسم يا أهل نجران أن هذا الرجل نبي.
أجابني الأسقف مرعوباً:ـ أرى وجوهاً لو سأل الله بها أحداً، ليزيل أحداً من مكانه لأزاله.
صحت:ـ ما لكم يا قوم، أفلا تنظروا محمداً رافعاً يديه ينظر ما تجيبون به، وحق المسيح إذا نطق بكلمة، لا نرجع إلى أهل ولا إلى مال.
ألا تنظرون إلى الشمس قد تغير لونها، والأفق تنجع فيه السحب الداكنة، والريح تهب سوداء وحمراء، وهذه الجبال يتصاعد منها الدخان، لقد أطلّ علينا العذاب.
خرجت أنادي:ـ نعطيك الرضا، فاعفنا عن المباهلة، أخذت قومي وانصرفت حفاظاً على هذه الأمة من الزوال، انصرفت بهم للسلامة والخلاص من نهاية اكيدة.
جلست بين قومي احدثهم بأمور العقل، وأشرح لهم بعض الأمور التي تخفى عليهم. اكتشفت لحظتها أن تعيين شخصيات المباهلة هو اختيار إلهي، لو علم الله تعالى في الأرض اكرم منهم لأمرني أن أباهل بهم، واعلموا أن نفس محمد هو علي واقتصر المباهلة على أهل بيته، ليقول لنا بأنه باق بهم الدين، وليبين لأهل دينه لطيف مكانتهم، وقرب منزلتهم من الله تعالى، واعلموا لو استوعبتم هذا الدرس بقيتم، وإلا لا تقوم لكم قائمة، وقولوا قالها شرحبيل بن وداعة الأنصاري.