- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
مُكافحة الفساد ..الحلقة الأولى (أقسام الفساد)
بقلم د. حسن الياسري - رئيس هيئة النزاهة
لا بدَّ من التنويه ابتداءً إلى أنَّنا سنقومُ بمشيئة الله تعالى بتسليط الضوء على عددٍ من الأفكار المُتعلِّقة بمكافحة الفساد، مشفوعةً بالتجربة الميدانيَّة المُستقاة من العمل الميدانيِّ في المجالين المحليِّ والدوليِّ. وستكون هذه الأفكار عبر سلسلةٍ مُتواصلةٍ، سنبدأها بالحديث أولاً عن أقسام الفساد وأنواعه.
ليس من الغريب القول، إنَّ الجميع يتحدَّثُ عن الفساد وأسبابه، ولعلَّهم يُسهبون في الحديث عن دوافعه وأنواعه وأقسامه، بيد أنَّ الغريب في الأمر أنَّ هؤلاء لا يُصيبون الحقيقة في حديثهم، وبوصفنا مُتخصِّصين، نشعر بالغرابة من كثيرٍ من الآراء والأفكار التي تُطرَحُ في هذا الميدان، التي نراها مُجافيةً للواقع.
إنَّ الحديث عن الفساد يستلزمُ ابتداءً ذكرَ ضدِّهِ، وأعني بذلك – النزاهة –، فالنزاهةُ قيمةٌ أخلاقيَّةٌ نفسانيَّـةٌ، وهي من الفضائل، بخلاف الفساد الذي يُعَدُّ رذيلةً بلا ريبٍ، وعلى الرغم من الاختلاف في تعريف وتحديد مفهوم الفساد، فإنَّ بالإمكان القول، إنَّ الفساد أمرٌ خلافُ الفطرة وينطوي على تعدٍّ واضحٍ فاضحٍ لحقوق الناس والبلد، ومن ثمَّ فهو يُعَدُّ إثماً في المنظور الدينيِّ وجريمةً في المنظور القانونيِّ.
وفيما يتعلَّق بأقسام الفساد، فيُمكنُ القول بإيجازٍ شديدٍ، وبعيداً عن التفاصيل، وبصراحةٍ لا متناهية، إنَّ للفساد أقساماً مُتعدِّدةً وأنواعاً مُختلفةً، هذا على المُستوى النظريِّ.
أمَّا على المُستوى العمليِّ المُستقى لدينا من العمل الميدانيِّ، فإنَّنا نحصرُ الفساد في أقسامٍ ثلاثةٍ، هي:
1. الفساد السياسيُّ، وأعني به الفساد المُرتبط بمُمارسة السلطة وسلوكيَّات الفرقاء السياسِّيين المُساهمين في السلطة التشريعيَّة والتنفيذيَّة.
إنَّ في العودة إلى تعاريف الفساد من قبل المُنظَّمات الدوليَّة يُعَدُّ تأكيداً واضحاً على ما ذُكِرَ آنفاً، فلقد وصفت مُنظَّمة الأمم المُتَّحدة الفساد بقولها "سوء استعمال السلطة العامَّة لتحقيق مكسبٍ خاصٍّ"، وكذا فعل البنك الدوليُّ حينما عبَّر عن الفساد بالقول: "إساءة استعمال المنصب العامِّ لغرض مكاسب شخصيَّةٍ"، وجاءت مُنظَّمة الشفافيَّة الدوليَّة لتؤكِّد ما سبق بقولها: "كلُّ عملٍ يتضمَّن سوء استخدام المنصب لتحقيق مصلحةٍ خاصةٍ ذاتيةٍ لنفسه أو لجماعته".
إنَّ هذا النوع من الفساد – السياسيّ – يُعَدُّ واحداً من أخطر سلوكيَّات الفساد، ويُولِّدُ آثاراً خطيرةً، لعلَّ في مُقدِّمتها أنَّه يُفضي الى تعطيل التنمية في البلد ويُقوِّضُ العدالة الاجتماعيَّة، والأدهى من ذلك كلِّه أنَّه يُولِّدُ الجرأة لدى عامة الناس في سلوك منافذ الفساد، ما دام هؤلاء يرون أنَّ بعض النخبة لا يلتزمون بالقانون، بل يقومون بخرقه؛ تحقيقاً لمكاسب شخصيَّةٍ أو حزبيَّةٍ، الأمر الذي يُفضي في النهاية إلى إضعاف ثقة المُواطن بالدولة ومؤسَّساتها، حتَّى لو كانت بعض المُؤسَّسات عاملةً بجدٍّ ونزاهةٍ، وتلك داهيـةٌ عـظـمى.
في الحقيقة إنَّ الفساد السياسيَّ يأخذ أنماطاً مُختلفةً، ويتلبَّسُ بلبوسٍ مُتعدِّدةٍ ليس هنا محلُّ ذكرها لاتِّساعها، بيـد أنَّ ما يمكن قوله في هذا الإطار إنَّ سياسة عـدم تـوليـة الصالح النـزيـه الخـبـيـر بشؤون الدولة، هو رأسُ الفساد السياسيِّ، وأشدُّ مـن ذلـك عــدم قــيام الـسلـطـة بـجناحيها الدستوريَّين بإزاحة من يثبت فساده أو فشله.
2 . الفساد المجتمعيُّ: وأعني به الفساد المُتعلِّق بالمُمارسات المُجتمعيَّة الفاسدة، إذ قد تتورَّط بعض شرائح المُجتمع بالفساد، بشعورٍ أو بدونه، بعمدٍ أو بغيره، حتَّى يصبح الفسادُ في المُجتمع أمراً سائغاً لا اعتراض عليه، وأدهى من ذلك أن يتحوَّل المُجتمع في تشخيص بعض ظواهر الفساد وبعض مظاهر المحسوبية واستغلال المنصب، فيراها ذكاءً ونباهةً وحنكةً وشطارةً وأنَّ "الشجرة اللي ما تفيي على أهلها ما بيها خير" و أنَّ "البي خير يكوِّن نفسه"...!!! وأنَّ المُوظَّف النزيه المُلتزم بالقانون هو (مُعقَّد ونحس)!! وإلى غير ذلك من عشرات التبريرات التي تُعَدُّ بالمُحصِّلة من إفرازات الفساد، حتَّى يصل المُجتمع إلى درجةٍ يشعر فيها المُلتزم النزيه بالغربة.
ولئن قلنا، إنَّ الفساد السياسيَّ يُعدُّ واحداً من أخطر سلوكيَّات الفساد، فإنَّ الفساد المُجتمعيَّ هو أخطر منه بلا ريبٍ؛ ذلك أنَّ المُجتمع – إن تورَّطت بعض شرائحه بالفساد – فإنَّ مُخرجاته ستكون كلُّها فاسدةً بالمُحصِّلة، سياسيَّةً كانت أو غيرها، وذلك هو البلاء المُبين.
وبطبيعة الحال تستلزم مُكافحة الفساد المُجتمعيِّ، تحصين المُجتمع من الوقوع في شرائك الفساد ابتداءً عبر مجموعة آلياتٍ وإجراءاتٍ مُجتمعيَّةٍ يشترك فيها الجميع، من مُنظَّمات المُجتمع المدنيِّ وأرباب المنبر والفعاليَّات المُجتمعيَّة المُختلفة.
3. الفساد الإداريُّ والماليُّ:
وأعني به الفساد المُتعلِّق بالمُخالفات القانونيَّة المُرتكبة من سلطة الإدارة بالمعنى العامِّ، أي مُؤسَّسات الدولة المُختلفة، سواء اتَّخذت تلك المُخالفات طابعاً إدارياً أو مالياً.
إنَّ هذا النوع من الفساد يُعَدُّ أهونَ حلقةٍ في سلسلة الفساد، وأضعف بكثيرٍ من الفسادين المُتقدِّمينِ، وهذا على خلاف ما يُشاعُ في الساحة العراقيَّة التي تُركِّزُ الكلام في الفساد في هذا النوع، ويحاول الجميع أن يُصوِّرَ أنَّ الفساد مُنحصرٌ في الفساد الإداريِّ والماليِّ، وأنه هو سببُ بلاء البلد!!!
وهذا كلُّهُ خلافُ الواقع؛ لعدَّة أسبابٍ، لعلَّ من أهمِّها:
- إنَّ الفسادين المُتقدِّمين (السياسيَّ والمُجتمعيَّ) هما أخطرُ بكثيرٍ من الفساد الإداريِّ والماليِّ الذي يُعَدُّ أضعفَ حلقةٍ في سلسلة الفساد.
- إنَّ الفساد الإداريَّ والماليَّ يُعَدُّ نتيجةً مُترتِّبةً على ما قبله من الفسادينِ، وليس سبباً لهما، بل هما سبباه.
- إنَّ مُكافحة الفساد الإداريِّ والماليِّ إنَّما تكون مُكافحةً لاحقةً، فهي تحدث بعد وقوع فعل الفساد، بخلاف مُكافحة الفسادينِ الآخرينِ التي تكون مكافحةً سابقةً، والأصحُّ أن تكون قبل وقوع فعل الفساد، بمعنى آخر أنَّ هذهِ المُكافحة هي إجراءٌ وقائيٌّ، بخلاف المُكافحة الأولى – مُكافحة الفساد الإداريِّ والماليِّ – فهي إجراءٌ علاجيٌّ؛ إذ إنَّ العقلاء يُجمعون بالبديهة أنَّ "الوقاية خيرٌ من العلاج".
- إنَّ الفساد الإداريَّ والماليَّ يُمكنُ السيطرة عليه عبر بسط رقابة الأجهزة الرقابيَّة، بخلاف الفسادينٍ المُتقدِّمينِ، اللذينِ لا يقعان تحت ولاية الأجهزة الرقابيَّة – ديوان الرقابة المالية وهيئة النزاهة ومكاتب المُفتِّشين العموميِّين -.
فالسيطرةُ على الفساد السياسيِّ تستلزم توفر الإرادة الجدِّيَّة لدى الفرقاء السياسيِّين التي تتبلور إلى منظومةٍ قانونيَّةٍ صارمةٍ جديدةٍ، وإجراءاتٍ عمليَّةٍ ميدانيَّةٍ على أرض الواقع، مثل إزاحة الفاسد ابتداءً وعدم تولية غير النزيه، فإنَّ هذهِ إجراءاتٌ تقوم بها السلطة بجناحيها التشريعيِّ والتنفيذيِّ، ولا علاقة للأجهزة الرقابيَّة بها. في الوقت الذي قامت الأجهزة الرقابيَّة الثلاثة بإجراءاتٍ كثيرةٍ؛ للحدِّ من الفساد الإداريِّ والماليِّ والتخفيف من غلوائه، وبنظرةٍ مُوجزةٍ وسريعةٍ إلى التقارير الدوريَّة التي تعدُّها هيئة النزاهة وتنشرها في موقعها الرسميِّ وتُزوِّدُ بها أغلب وسائل الإعلام، ستعطيك انطباعاً واضحاً عن أنَّ الهيئة حقَّقت سنوياً – في غضون السنوات الثلاث الأخيرة – في قرابة تسعة آلاف قضيَّةٍ – سنوياً – وأحالتها على القضاء المُختصِّ، ومن بينها قضايا كبرى شملت وزراءَ ونوَّاباً ومُحافظين ورؤساء مجالس مُحافظات وغيرهم من ذوي الدرجات الخاصَّة، هذا فضلاً عن إجراءات الديوان التدقيقيَّة ومكاتب المُفتِّشين العموميِّين التي لا تُسلَّطُ عليها الأضواء.
- لكي تقوم الأجهزة الرقابيَّة بمُكافحة الفساد الإداريِّ والماليِّ، فإنَّها تحتاجُ من الناحية القانونيَّة إلى إيـجاد الأدلة القويَّة, ثمَّ تحتاجُ بعد ذلك الى إقنــاع القـضاء بهذه الأدلة التي ربما لا يقـتنعُ بها؛ للاختلاف في التفسير، ومع صعـوبة إيجاد هذه الأدلة المادِّيَّة القويَّة، ومع تفـنُّـن الكثير في إخفاء الأدلة، قد يُصبح إقناع القضـاء أمـراً فـي غـاية الصعوبة، وهذا كلُّه لا نحتاجُ إليه في مُكافحة الفساد السياسيِّ، إذ يكفي توفرُ الإرادة الحقيقيَّة لدى الفرقاء السياسيِّين وقيامهم ذاتياً بوضع برامجٍ وآلياتٍ لمُكافحة الفساد، كأن يقوموا بتعديل قانون العفـو الـعـامِّ؛ لـئلا تُـشمَـل بأحـكامـه جـرائم الفساد، وكأن يقوموا بترشيح الكفوء الخبير النزيه لتولِّي الوظيـفـة العامَّة، قياديَّةً أو غيرها، وكأن يقوموا بتشديد العقوبات المُترتِّبة على جرائم الفساد عبر التدخُّل التشريعيِّ، وغير ذلك من عشرات الآليَّات والإجراءات التي بالإمكان الركون إليها من دون حاجةٍ لتقديم أدلةٍ قويَّةٍ مُقنعةٍ للقضاء.
وهنا نودُّ التنويه بأنَّنا قد سهَّـلنا المُهمَّة على الجميع عبر وضع كلِّ هذه الآليَّات والإجراءات في مُكافحة الفساد عبر (مُسوَّدة الاستراتيجيَّة الوطنيَّة لمُكافحة الفساد)، و(رؤية مُكافحة الفساد)، و(خارطة طريق مُكافحة الفساد)، ولا أدري متى سترى النور؟!!
وليس بخافٍ على المُتخصِّصين أنَّ الكثيرين يتعمَّدون الخلط بين هذه الأقسام من الفساد، وحصرها في الفساد الإداريِّ والماليِّ، وتصويره كما لو كان هو السبب الأول والرئيس في استشراء ظاهرة الفساد، مُحمِّلين، على خلاف الواقع، الهيئة وسائر الأجهزة الرقابيَّة مسؤوليَّة الفساد السياسيِّ، الذي هو مسؤوليَّة الدولة بمُؤسَّساتها الدستوريَّة، التشريعيَّة والتنفيذيَّة، وهذا ما تسير عليه دول العالم أجمع، من الشرق إلى الغرب. وتأسيساً على ما سبق، يُعَدُّ الحديث عن مُكافحة الفساد "هواءً في شبكٍ"، وحديثاً عقيماً لا جدوى منه، إن لم يتضمَّن وضع برامج وآليَّاتٍ وإجراءاتٍ؛ لمنع الفساد السياسيِّ ابتداءً، وإن استلزم ذلك مُراجعة المنظومة القانونيَّة برمَّتها، بل ومُراجعة السلوكيَّات السياسيَّة بأجمعها وما يحكمُها من أنظمةٍ... وللحديث تتمَّةٌ إن شاء الله.
أقرأ ايضاً
- الذكاء الاصطناعي الثورة القادمة في مكافحة الفساد
- كيف حارب السنغافوريون الفساد؟
- استرداد العائدات المتحصلة من جرائم الفساد