- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الفساد العلمي بوابة تحول المعرفة إلى سلاح في يد الفاسدين
بقلم: د. طلال ناظم الزهيري
في الوقت الذي تحاول فيه الحكومات العراقية المتعاقبة مواجهة مظاهر الفساد السياسي والإداري والمالي المستشري في مختلف المؤسسات الحكومية منذ أكثر من عقدين من الزمن. تسلل نوع آخر من الفساد إلى المجال الأكاديمي ألا وهو الفساد العلمي، الذي أصبح يشكل تهديدا خطيرا لنزاهة المؤسسات التعليمية.
حتى أن تفشي مظاهر الفساد العلمي كانت قد أضافت بعدا جديدا إلى مشهد الفساد المعقد بالفعل. ويبدو أن الكفاح من أجل القضاء على الفساد على جميع الجبهات يمثل تحديا كبيرا للدولة حيث تتكامل الجوانب الأربعة لمربع الفساد – السياسية والإدارية والمالية والآن العلمية – مما يخلق عقبة هائلة أمام حركة الإصلاح.
ومع الإقرار بخطورة الفساد العلمي نجده غالبا خارج دائرة الضوء حيث يتم تركيز وسائل الإعلام والصحافة على على الفساد السياسي والإداري والمالي، في الوقت الذي تمر فيه المظاهر الدقيقة للفساد العلمي دون أن يلاحظها أحد، أو قد تكون مموهة في إشارات ضمنية ونادرة في معظم الأحيان. وكأن المؤسسات العلمية والأكاديمية العراقية تعيش حالة من المثالية، منفصلة عن الواقع القاسي للفساد الذي تسرب إلى أسس النظام التعليمي.
وعلي النقيض من هذه الواجهة، لا يمكن التقليل من خطورة الفساد العلمي، لأنه بمثابة العمود الفقري الذي قد تستند عليه جميع أشكال الفساد الأخرى. إن اختزال مفهوم الفساد العلمي في الأنشطة البحثية فقط هو استهانة فادحة بخطورته.
وعليه سوف نحاول في هذا المقال سبر أغوار الفساد العلمي في الجامعات العراقية، لا عن نية الإساءة إلى مكانتها المرموقة في المجتمع أو التشكيك المطلق في رصانتها وإنما هي محاولة استباقية نهدف من خلالها القضاء على هذه الظاهرة قبل أن تنمو وتستشري للدرجة التي تتداخل فيها مع مظاهر الفساد الأخرى، الأمر الذي يصبح فيه من المستحيل الحد من خطورتها وتأثيرها. وهنا نؤكد على أن أي ثغرات تشريعية أو تهاون من قبل المؤسسات التعليمية في الوقوف بحزم ضد هذه الظاهرة أو نكران وجودها، سوف يؤدي في النهاية إلى عواقب لا يحمد عقباها. خاصة وأن ملامح الفساد العلمي، قد لأتكون بوضوح الجوانب الأخرى من الفساد، كونها غالبا تكون خفية ويصعب الكشف عنها.
وإذا ما أدركنا أن تأثير الفساد العلمي في إي ممارسة له سوف يؤدي في المحصلة النهائية إلى إعلاء سدة الفاسدين ويعطي لهم الغلبة في قيادة المؤسسات التعليمية مستقبلا، وهو أمر أن حصل سوف يقضي تدريجيا على السمعة العلمية للجامعات العراقية. بالتالي نهدف اليوم إلى تشخيص المفاصل الحقيقية للفساد العلمي، وتسليط الضوء على أبرز مظاهره، وإبراز المخاطر المحدقة بالمؤسسات الأكاديمية والمجتمع ككل. فعلى مدى عقود من الزمن كان غش الطالب في الامتحانات التحريرية أو تسريب الأسئلة هو المظهر الأكثر شيوعا وتكرارا في المؤسسات التعليمية.
ومن الغريب أن هذه الظاهرة يتسع نطاقها وتتنوع أساليب وتقنيات ممارستها جيل بعد جيل حتى مع وجود إجراءات رادعة لها. لكننا اليوم نتحدث عن ممارسات أكثر خطورة، تعدت الطلاب لتصل إلى الكوادر التعليمية. على سبيل المثال يعد انتحال الصفات الأكاديمية من خلال تزوير الشهادات والألقاب الأكاديمية أحد مظاهر الفساد العلمي الذي يمكن أن يقوض مصداقية المؤهلات التعليمية محليا ودوليا. حيث قد يصعد ذوو المؤهلات الملفقة إلى مناصب مؤثرة مما يضر بالمنظومة التعليمية ككل.
كما أن السرقة العلمية القائمة على نسخ وتقديم أعمال الآخرين على أنها أعمال خاصة بهم يؤدي إلى تآكل أسس الصدق الأكاديمي. ومما لا شك فيه أن انتشار السرقة العلمية يقلل من جودة التعليم وأصالة الإنجازات الأكاديمية ويمنح هؤلاء الفاسدين مواقع لا يستحقونها. في سياق متصل يعد تزوير الخبرات والسير الذاتية من خلال التلاعب بخبرات العمل والسيرة الذاتية للوصول إلى المناصب القيادية الأمر الذي يعيق تعيين الأفراد المؤهلين. ويحجب الموهبة الأكاديمية الحقيقية مما يعيق تقدم المؤسسات الأكاديمية.
لكن علينا أن نعترف مسبقا أن اختيار القيادات الإدارية في الجامعات العراقية واقعا يقدم الارتباط الحزبي على المؤهلات الأخرى انسجاما مع التحاصص الحزبي في باقي المؤسسات الحكومية. وفي تقديري الشخصي أن هذه الممارسة يمكن أن تختزل كل مظاهر الفساد العلمي الأخرى. وعلى المستقبل المنظور نتوقع أن تمتد الأضرار المحتملة للفساد العلمي لتشمل تآكل النزاهة الأكاديمية الأمر الذي سوف يقوض مصداقية وسمعة الجامعات، مما يؤدي إلى فقدان ثقة الجمهور في النظام التعليمي.
ولا شك أن الفساد العلمي سوف يؤدي إلى تدهور جودة التعليم خاصة مع انتشار مظاهر الانتحال واكتساب المؤهلات المزيفة. الأمر الذي يؤدي أن تراجع الجدارة الأكاديمية خلف الممارسات الخادعة التي تعيق التطور الفكري. فتعيين الأفراد بناء على مؤهلات مزورة يؤدي إلى قيادة غير فعالة والتي سوف تسعى جاهدة إلى الاستئثار بالمواقع والمناصب من خلال العمل على تهميش الأكاديميين الأكفاء والمستحقين، مما يعيق تقدم المؤسسات الأكاديمية.
علينا أن ندرك أن الفساد العلمي يحول المعرفة إلى سلاح يستخدمه الفاسدون لتحقيق مكاسب شخصية. إذ يشكل اختلاس النفوذ الأكاديمي تهديدا خطيرا لتنمية مجتمع واعي ومتطور. وعليه تتطلب مكافحة الفساد العلمي في الجامعات العراقية نهجا بأوجه متعددة يتضمن التعاون بين المؤسسات الأكاديمية والهيئات الحكومية والهيئات التنظيمية والمجتمع الأوسع. وفيما يلي بعض من الاستراتيجيات التي يمكن تنفيذها لمعالجة خطر الفساد العلمي والتخفيف منه:
•تعزيز أطر تنظيمية صارمة تستهدف على وجه التحديد المؤهلات الأكاديمية والممارسات البحثية وتعيين القادة الأكاديميين. فضلا عن تنفيذ وتحديث قواعد السلوك والمبادئ التوجيهية الأخلاقية للبحث الأكاديمي والسلوك المهني بانتظام.
•الالتزام بعمليات تكليف شفافة قائمة على الجدارة للمناصب الأكاديمية، مع التأكد على أن التعيينات تكون مبنية على مؤهلات وإنجازات حقيقية. دون اعتبارات أخرى.
•وضع التدابير الضرورية لتنفيذ سياسية صارمة للتحقق من صحة أوراق الاعتماد الأكاديمية والخبرات المهنية.
•تعزيز البرامج التعليمية حول النزاهة الأكاديمية وأخلاقيات البحث ومنع الانتحال لكل من الطلاب وأعضاء هيئة التدريس.
•تعزيز ثقافة الصدق والسلوك الأخلاقي داخل المؤسسات الأكاديمية من خلال الحملات التوعوية وورش العمل.
•تعزيز الرقابة على البحوث من خلال تبني آليات قوية للإشراف على الأنشطة البحثية ومراجعتها، بما في ذلك مراجعة المنشورات وطلبات المنح ومنهجيات البحث.
•تشجيع البحوث التعاونية ومتعددة التخصصات لتعزيز ثقافة الشفافية والمساءلة.
•التأكيد على أهمية تنفيذ آليات حماية المبلغين عن المخالفات لتشجيع الأفراد على الإبلاغ عن حالات الفساد العلمي دون خوف من الانتقام.
•تنفيذ برنامج كشف الانتحال لتحديد ومنع الانتحال الأكاديمي في الأوراق البحثية والمنشورات. والاستفادة من التكنولوجيا للتحقق من أوراق الاعتماد الأكاديمية والكشف عن الوثائق المزورة.
•التطوير المهني المستمر والتدريب لأعضاء هيئة التدريس على أخلاقيات البحث وممارسات الاستشهاد الصحيحة والسلوك المسؤول للبحث. فضلا عن تشجيع التعلم المستمر والاطلاع على أفضل الممارسات في مجال النزاهة الأكاديمية.
•تعزيز التعاون مع المؤسسات والمنظمات الأكاديمية الدولية لتبادل أفضل الممارسات والخبرات والاستراتيجيات في مكافحة الفساد العلمي. والعمل على المشاركة في المبادرات العالمية والالتزام بالمعايير الدولية للنزاهة البحثية.
•القيام بحملات توعية عامة لتوعية المجتمع بأضرار الفساد العلمي على التعليم والبحث والتنمية المجتمعية. مع التأكيد على التواصل مع وسائل الإعلام لرفع مستوى الوعي وتشجيع اليقظة العامة ضد الممارسات الأكاديمية الاحتيالية.
•مساءلة المؤسسات حول الحفاظ على مستويات عالية من النزاهة الأكاديمية، مع فرض عقوبات على أولئك الذين تثبت إدانتهم بتسهيل الفساد العلمي أو الانخراط فيه. من خلال إنشاء لجان داخلية أو مكاتب تفتيش للتحقيق في مزاعم الفساد العلمي داخل الجامعات.
•تعزيز التعاون بين الجامعات والمؤسسات البحثية والصناعة لإنشاء شبكة من الرقابة والمسؤولية المشتركة في الحفاظ على المعايير الأكاديمية.
ومن خلال تنفيذ هذه الاستراتيجيات بشكل جماعي ومتسق، تستطيع الجامعات العراقية خلق بيئة تعزز التميز الأكاديمي والنزاهة والثقة، في حين تكافح بشكل فعال آفة الفساد العلمي. ويهدف هذا النهج الشامل إلى استعادة الثقة في نظام التعليم وتعزيز ثقافة السلوك الأخلاقي داخل المؤسسات الأكاديمية.
وفي الختام، فإن المعركة ضد الفساد في الجامعات العراقية يجب أن تمتد إلى ما هو أبعد من المظاهر السطحية، لتتناول القوة الخفية والمدمرة للفساد العلمي. ولن يتسنى للمؤسسات الأكاديمية أن تستعيد دورها باعتبارها معاقل للمعرفة، غير ملوثة بالتأثير المدمر للفساد، إلا من خلال جهد جماعي لفضح هذه الممارسات الخادعة وإدانتها والقضاء عليها. لقد حان الوقت لكشف النقاب عن العدو الصامت في داخل المنظومة التعليمية والحفاظ على قدسية التعليم في العراق.
أقرأ ايضاً
- الصيد الجائر للأسماك
- ضمانات عقد بيع المباني قيد الإنشاء
- كيف السبيل لانقاذ البلد من خلال توجيهات المرجعية الرشيدة ؟