- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
استرداد العائدات المتحصلة من جرائم الفساد
بقلم: لطيف حسين عبيد - المدعي العام في رئاسة الادعاء العام
ورد مصلح (استرداد العائدات) في كل الاتفاقات الدولية والإقليمية المتعلقة بالجرائم التي تنطوي على جانب مالي ومنها جرائم الفساد، وقد وردت عدة مسميات لهذا العنوان منها (استرداد الأصول) و(استرداد الموجودات) و(استعادة الأموال المنهوبة) الا انها تحل نفس المعنى والمحتوى اذ ان المقصود منها الأرجاع التي يجنيها المجرم من خلال ارتكابه لأفعال غير مشروعة.
وقد ورد مصطلح استرداد الموجودات في المادة 51 من اتفاقيات الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، مؤكدة على (ان استرداد الموجودات هو مبدأ أساسي في هذه الاتفاقية وعلى الدول الأطراف ان تمد بعضها البعض لأكبر قدر من العون والمساعدة في هذا المجال. اما العائدات الاجرامية فقد وردت في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الاتجار غير المشروع في المخدرات والمؤثرات العقلية.
وبحسب مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، وفي سياق اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد تعني عبارة (استرداد الموجودات) تحديد وتجميد وحجز ومصادرة الممتلكات غير الشرعية واسترداد الأموال محل المصادرة حين يسمح القانون، واعادتها للملاك الشرعيين او ضحايا جرائم الفساد الذين قد يكون بعض الحالات طرف في الاتفاقية كما هو الحال بين العراق والمملكة الأردنية الهاشمية.
ولا يخفى على احد الاثار السلبية لجرائم الفساد حيث تتأثر جميع السياسات المرتبطة بالسلم والامن والنمو الاقتصادي والتعليم والرعاية الصحية للدولة المنشأ بتصدير العائدات المتحصلة من جرائم الفساد اذ يترتب على ذلك استنفاد احتياطي العملة وتقليص الوعاء الضريبي وزيادة مستويات الفقر والتأثير السلبي على أسس التجارة الحرة.
وتأتي أهمية استرداد العائدات من انه تدبير رادع يقضي على الحافز الذي يدفع الأشخاص لارتكابهم جرائم الفساد وهو إقرار للعدالة في الميادين المحلية والدولية من خلال فرض عقاب على أي سلوك اجرامي ويلعب دوراً كبيراً في إضعاف ظاهرة الفساد ولاسيما على الصعيد غير الوطني من خلال حرمان وتجريد مرتكبي تلك الجرائم من الموجودات التي حازوها ويعزز من ناحية أخيرة الهدف المنشود من قبل كافة الدول في إقامة العدل وإصلاح الضرر.
إن اتفاقية الأمم المتحدة التي انضم إليها العراق عام 2007 وانضمت إليها المملكة الأردنية الهاشمية عام 2005 تم اعتبارها في الفقرة السادسة من المادة 55 هي الأساس التعاهدي اللازم والكافي فيما اذ اختارت أي دولة ان تجعل التدابير الواردة في الاتفاقية مشروطة بوجود معاهدة بين الطرفين، وقد أشارت بشكل صريح بالمادة 57 وبعنوان عريض إلى (إرجاع الموجودات والتصرف فيها) وأكدت على أن الأولوية في إرجاع الممتلكات المصادرة إلى الدولة الطرف الطالبة أو إرجاعها إلى أصحابها الشرعيين. وهذا يعني ان الغاية من المصادرة ليست الاحتفاظ بالأموال المنهوبة وإنما إعادتها الى أصحابها خاصة وان الفقرة الثالثة / أ نصت على (في حالة اختلاس أموال عمومية او غسل أموال عمومية مختلسة عندما تنفذ المصادرة استنادا الى حكم نهائي صادر من الدولة طرف الطالبة ان ترجع الممتلكات المصادرة الى الدولة الطالبة. اما في قانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب الأردني رقم 46 لسنة 2007 فقد ألزمت المادة 22 منه الجهات القضائية الأردنية بالتعاون مع الجهات غير الأردنية في طلبات تعقب وتجميد أو التحفظ على الأموال محل جرائم غسل الأموال أو متحصلات أي منها وذلك وفقاً للقواعد التي تحددها القوانين الأردنية والاتفاقيات الثنائية او متعددة الأطراف التي صادقت عليها المملكة او وفقاً لمبدأ المعاملة بالمثل مع عدم الإخلال بالغير حسن النية، كما نصت الفقرة من المادة 23 من القانون على أن يتم توزيع حصيلة الأموال المحكوم نهائياً بمصادرتها وفقاً لأحكام هذا القانون بموجب الاتفاقيات التي تعقد بهذا الشأن.
لقد كان للقضاء العراقي دور بارز في مكافحة الفساد والتصدي له وملاحقة الفاسدين لتحقيق الردع العام حيث جعل من الفساد مشروعا عالي المخاطر من خلال ملاحقة جدية وحازمة وكفوءة لجرائم الفساد ابتداءً من تحريك الشكوى الجزائية لحين صدور قرار فاصل بالدعوى بحكم نهائي من خلال محاكم التحقيق والجنح والجنايات لان ممارسات الفساد اذا مرت بدون مساءلة ولا حساب او عقاب فأن تلك الممارسات تنمو وتتأصل وتتجذر في المجتمع الى الحد الذي تنقلب فيه الى قيمه فتنشأ فيه قيم تحتضن الفساد وتدافع عنه وتصبح ممارساته وظواهره مقبولة او يتسامح المجتمع معها فيصعب حين ذاك مواجهتها والتصدي لها، لذا كان لابد ان لا يقتصر عمل القضاء على توقيع العقوبات على مرتكبي جرائم الفساد بل يمتد الى إجراءات ملاحقة واسترداد عائدات الفساد.
إن الغاية من تجريم الأفعال وتحديد العقوبات ردع الجاني وجعله عبرة لغيره فيتجنب الناس من التورط في ارتكاب أفعال مماثلة، ولا يقتصر أثر الإجراءات التي تتخذها المحاكم الجزائية في تحقيق الردع العام على الأثر الذي تحققه الاحكام النهائية التي تصدرها محاكم الموضوع (الجنايات والجنح) والقاء المتهم في السجن بل يجب ان تمتد الى استعادة الأصول والأموال المنهوبة، لاشك عندما تحرم الفاسدين من التمتع بثمار جرائمهم اكثر أيــلاماً مـــــن ايداعهم السجن، بل ان أموال الفساد اذا لم تتم ملاحقتها بكفاءة وفاعلية قد تكون أداة من أدوات الفاسدين في التأثير على التحقيق وصرف مساره لمصلحتهم خاصة في البلدان النامية التي لم يستقر فيها حكم القانون بقوة كافية.
كما إن الإفلات بأموال الفساد يشجع الآخرين على ارتكاب جرائم مماثلة وهو مدعاة لبعث الإحباط واليأس في نفوس الناس وسبب من أسباب فقدان ثقتهم بالحكومة وبالمؤسسات الرقابية والجهات المعنية بمكافحة الفساد وبالقضاء، بل يؤدي الى إهدار سيادة القانون وزعزعة إيمان الشعب به.
أقرأ ايضاً
- الذكاء الاصطناعي الثورة القادمة في مكافحة الفساد
- الأخطاء الطبية.. جرائم صامتة تفتك بالفقراء
- جرائم الإيموجي