حجم النص
ما كان قائما خلال الأعوام الثمانين الماضية، لم يعد على حاله الآن بين المملكة السعودية والولايات المتحدة. ليس انهيارا بالتأكيد، لكن اللهجة الودية التي خاطب بها الرئيس باراك أوباما مضيفيه السعوديين والخليجيين في الرياض بالأمس، بدت مفتعلة قليلا بديبلوماسيتها، وبعيدة كثيرا عن اللهجة اللاذعة التي استخدمها في مقابلة مجلة «أتلانتيك» الشهيرة قبل أسابيع، لكنها تحمل المضامين ذاتها. النصائح هي ذاتها بما يأخذ بالاعتبار مقتضيات احترام المضيف. صحيح أن أوباما والملك سلمان عقدا خلوة استمرت ساعتين، لم يرشح عنها تفاصيل للإعلام، لكن الأكيد أن غيوما كثيرة خيمت على اللقاء، بحضور ولي العهد الأمير محمد بن نايف وولي ولي العهد محمد بن سلمان، رجلا المرحلة والمستقبل الغامض. غيوم لم تتجمع من عبث، ومرتبطة بتداعي أعمدة العلاقة «التاريخية» التي تطورت تدريجيا بين «الحليفَين» منذ أربعينيات القرن الماضي عندما عقدت القمة الأولى على السفينة العسكرية الأميركية «كوينسي» بين الملك عبد العزيز والرئيس روزفلت في العام 1945 النفط الذي لم تعد المملكة تهيمن عليه لا إقليميا ولا عالميا، وصارت له بدائله، والخطر الشيوعي الذي تلاشى منذ 30 سنة، ركنان أساسيان في ما كان قائما بين واشنطن والرياض. والآن، تنتقل المملكة إلى جيل حاكم أكثر قلقا، وتحاول العبور إلى المستقبل وسط نيران إقليمية مشتعلة، وتحاول ترسيخ «الصداقة» مع حليفها الأميركي بصفقات المليارات على السلاح وغيره. وماذا تسمع المملكة المضطربة في هذه الأثناء؟ توبيخ أميركي علني في قمة «كامب ديفيد» قبل عام حول ضرورة الالتفات إلى الخطر الداخلي الحقيقي الذي يكمن في مجتمعها، لا إلى الخطر الإيراني. وتسمع كلاما الآن حول ضرورات الإصلاح وحقوق الإنسان والاهتمام بمشاكل جيل الشباب وتوجيه اقتصادها لخدمتهم ومواجهة مخاطر الإرهاب المتنامي. وتقرأ المملكة تصريحات للرئيس الأميركي وهو يشير إليها صراحة بالمسؤولية عن صعود الإسلام المتطرف في دول متسامحة كإندونيسيا وغيرها. وينفجر ما لا يسر من مفاجآت ولا يطمئن. في آذار الماضي، وزير خارجية المملكة العربية السعودية عادل الجبير، يقول للكونغرس الأميركي، إنه لو سمح بصدور قرار يجيز لضحايا هجمات 11 أيلول على نيويورك وواشنطن، مقاضاة السعودية بتهمة دعم الإرهاب، فستجد المملكة نفسها مضطرة إلى سحب ودائعها وأصولها المقدرة بأكثر من 750 مليار دولار من الولايات المتحدة. وقبل وصول أوباما بأيام قليلة إلى الرياض، كانت صحيفة «نيويورك تايمز» تنشر تقريرا موسعا حول التهديد السعودي ومحاولات أوباما حماية الحليف السعودي. ربما لم تصل العلاقات السعودية ـ الأميركية إلى مرحلة «دفنها» كما توقع كثيرون في الأيام الماضية. لكن الأكيد أنها ليست في احسن أحوالها، ولن تكون قضية تحقيقات 11 أيلول، سوى وسيلة إضافية لابتزاز السعوديين، بما كانوا يظنون سلاحهم الاقتصادي، أي أموالهم المفترض أنها كانت آمنة، ربما تماما كما جرى ابتزازهم لسنوات طويلة بما سمي «الخطر الإيراني» لتكديس المخازن السعودية بالسلاح الاميركي، قبل أن يفاجئهم أوباما (وبعد سنوات تفاوض سرية مع طهران) بأن عليكم التعايش مع إيران، وأن لا مصلحة لاحد الآن بالمواجهة معها! وقد ودّع زعماء دول الخليج أمس الرئيس الرابع والأربعين للولايات المتحدة، في قصر الدرعية في الرياض، أمس، على أمل عدم اللقاء به مجدداً، بعدما اشتكى بعضهم مرارا من فتور العلاقة مع إدارته. أما هو، فودّعهم، بعدما اتفق معهم على الاختلاف «تكتيكياً» حتى إشعار آخر، مقدماً لهم في ختام جلسات «المصارحة»، تطمينات من جهة حول الالتزام بأمنهم، ومن جهة أخرى النصيحة الأخيرة، بأن الدخول في نزاع مع إيران ليس من مصلحتهم. وفي هذه الاجواء، ربما لم تكن مجرد صدفة، أن يكون أوباما في الرياض بالتزامن مع انعقاد مؤتمر التسوية اليمنية عند الجار الكويتي، ويتمثل معارضو السعودية لا بـ«أنصار الله» فقط، وإنما بحزب الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح. قال الأميركيون صراحة بعدما طالت الفرصة الممنوحة للسعوديين بحسم معركة اليمن (أو ربما توريطهم فيها)، إن الحرب الحقيقية في اليمن يجب أن تكون مع جماعات الإرهاب التي انتعشت في انحاء اليمن في ظلال العدوان السعودي الشامل. غير ذلك، كان العراق المادة الدسمة في مباحثات أوباما مع الخليجيين، ربما لأن الرئيس الأميركي يسعى لإنجاز مهم قبل نهاية عهده في مجال محاربة «داعش» سيكون العراق مسرحه، وربما يكون معركة الموصل، بعدما تقلصت كثيراً فرص الوصول إلى تسوية سورية قريبة. لكن أوباما بدا كأنه يحذر الخليجيين، في المقابل، من أن أي إطالة لأمد الصراع في سوريا ستكون مكلفة، وأن «الغالب سيرث بلداً منهاراً سيتطلب سنوات عدة لإعادة بنائه». وتقارب إدارة أوباما أزمات المنطقة من منظورها، وهي تختلف «تكتيكياً» مع دول الخليج، بحسب كلام مستشاره بن رودس الذي شدد على أن اللقاءات في الرياض ساعدت على «تنقية الأجواء» وحاولت «المواءمة» بين الأهداف التي يتفق عليها الطرفان، والأساليب، وهي موضع الخلاف بينهما. وحاول أوباما ترطيب الأجواء مع دول الخليج، قائلاً إن «ما ينطبق على الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون لدول الخليج العربية ينطبق على جميع حلفائنا وأصدقائنا، وهو أن خلافات قد تحدث في أي لحظة». وخرجت القمة أمس بتأكيد الرئيس الأميركي «التزام دول الخليج محاربة الإرهاب وسعيهم إلى إنهاء الحرب اليمنية ودعمهم للعملية السياسية في ليبيا». وقال أوباما إن بلاده وشركاءها الخليجيين «تعهدوا باستمرار التعاون في التصدي لتنظيم الدولة الإسلامية، وتخفيف حدة تصعيد صراعات إقليمية أخرى، مثل الصراع في سوريا». وسعى أوباما إلى طمأنة دول الخليج، وحثهم ضمنيا على المزيد من المشتريات للسلاح الأميركي، متطرقاً إلى «هواجسهم» من نشاطات إيران «المزعزِعة للاستقرار»، قائلاً إنه «نظراً إلى استمرار التهديدات في المنطقة، الولايات المتحدة ستواصل العمل على زيادة تعاونها العسكري مع شركائنا في دول مجلس التعاون الخليجي، بما يشمل مساعدتهم على تطوير قدرتهم للدفاع عن أنفسهم». وقال أوباما: «أكدت مجدداً سياسة الولايات المتحدة التي تقضي باستخدام كل عناصر قوتنا لتأمين مصالحنا الأساسية في منطقة الخليج ولردع ومواجهة أي عدوان خارجي على حلفائنا وشركائنا»، مضيفاً أنه «حتى مع توقيع الاتفاق النووي، نحن نقر بشكل جماعي أننا لا تزال لدينا مخاوف خطيرة بشأن تصرفات إيران». لكنه حض قادة الخليج على التواصل مع القوى «الأكثر عقلانية» في الجمهورية الإسلامية، بغرض «عدم المشاركة في تصعيد الحروب بالوكالة في المنطقة»، مشدداً على أنه «ليس لأي من دولنا مصلحة في النزاع مع إيران». واعتبر الرئيس الأميركي أن هناك «خلافا تكتيكيا مع دول الخليج بشأن إيران»، وهو يتعلق بأن «هناك قلقا من أن حوارنا مع إيران قد يجعلها أكثر جرأة في التصرف كما يحلو لها. لكننا نؤكد أننا دخلنا هذا الحوار لكي تكون هناك قوة أكثر عقلانية داخل إيران وأطراف نتفاوض معها»، مضيفًا: «اتبعنا أسلوب الحوار مع طهران رغم أنها كانت تصفنا بالشيطان الأكبر، لأننا تعاملنا معها كدولة لها مخزون نووي». وأكد أن بلاده «ستعمل على منع إيران من تسليح الحوثيين» في اليمن وقال أوباما إنه ناقش مع القادة الخليجيين «السبل المتاحة إذا ما انهارت اتفاقية وقف الأعمال العدائية في سوريا»، مؤكداً أنه «يجب التوصل إلى حل سياسي استناداً إلى ما يريده الشعب السوري»، ومعتبراً أن «أي خيار لا يرتكز على تسوية سياسية، فهذا يعني المزيد من المعارك لسنوات، والغالب فيها سيكون واقفاً على دولة أو بلد يكون قد انهار وتدمر، وسيحتاج بعد ذلك لسنين طويلة لإعادة بنائه». وقال الرئيس الأميركي إن القمة ركزت على ضرورة رحيل (الرئيس السوري) بشار الأسد، ليس فقط لأنه قتل شعبه، بل لأنه من الصعب أن يتصور المرء بأنه سيكون على رأس حكومة وينظر إليه على أنه شرعي ومشروع ولفت إلى أنه «قد تكون هناك فروقات وتباينات في الآراء، ولكن الهدف اليوم والهدف من اجتماعات كامب دافيد هو التأكد من التشارك في رؤية مشتركة حول الاستقرار والسلام وكيفية تحقيق ذلك في المنطقة، وكيفية التصدي للإرهاب والعنف». وتناول الرئيس الأميركي الأزمة العراقية، لافتاً إلى أن رئيس الحكومة العراقي حيدر العبادي «شريك جيد» للولايات المتحدة، لكنه «يخص العراقيين أنفسهم اتخاذ القرار حول شكل الحكومة التي يشكلونها. وقال أوباما إن واشنطن ودول الخليج «يجب أن تنتظر لرؤية ما إذا كان العراق بإمكانه الخروج من أزمته السياسية قبل أن تلتزم بالمزيد من المساعدات المالية» لهذا البلد، معتبراً أن «الشلل السياسي يعيق جهود الولايات المتحدة في حربها ضد داعش في العراق». وأوضح أوباما أنه «في الوقت الحاضر هناك تحديات في بغداد»، لافتاً إلى أن «هذه التحديات لا تقع في خانة الخلافات المذهبية التقليدية: سنية، كردية، شيعية. رغم ذلك، من الضروري لاستقرار العراق تشكيل حكومة لكي يتمكن من التركيز على المشاكل الأعمق والبعيدة المدى». وتطرقت القمة الخليجية - الأميركية إلى التراجع الحاد في أسعار النفط. وفي هذا الشأن، قال أوباما إن بلاده ودول الخليج ستجري «حواراً اقتصادياً على مستوى عال، مع التركيز على التأقلم مع أسعار النفط المنخفضة، وتعزيز علاقاتنا الاقتصادية ودعم الإصلاحات في دول مجلس التعاون الخليجي»، مشدداً على «الحاجة إلى اقتصاد يخدم كل المواطنين ويحترم حقوق الإنسان»، ومشيراً إلى أن الحوار بين الطرفين سيدعم دول الخليج «بينما تحاول توفير الوظائف والفرص لشبابها وكل مواطنيها». من جهته، اعتبر مستشار أوباما بن رودس أمس أن «لقاء أوباما كان على الأرجح الأطول مع الملك سلمان، وشهد مناقشة صريحة وصادقة»، مشيراً إلى أنه كان «بناء واستمر قرابة ساعتين، وتمكن من تنقية الأجواء». وأضاف بن رودس أنه «في ما يتعلق بالقضايا الرئيسية هناك اتفاق بشأن إلى أين نريد أن نمضي»، لافتاً إلى أن «توتر العلاقات في السنوات القليلة الماضية يعكس الخلافات بشأن الأساليب وليس الأهداف. ولكن هذه القمة تتيح لنا المواءمة بين مناهجنا واستراتيجياتنا». نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2016-04-22 على الصفحة رقم 1 – الصفحة الأولى كتبه محرر الشؤون العربية:
أقرأ ايضاً
- السوداني: الحكومة تسعى الى تأسيس شراكة استراتيجية متكاملة مع الجانب الإسباني (فيديو)
- بعد وقف اطلاق النار :خسائر اسرائيل في معارك جنوب لبنان
- رئيس الوزراء يؤكد التطلع نحو بناء شراكة اقتصادية مع المملكة المتحدة