حجم النص
بقلم // مهدي الدهش قد يستغرب أو لا يصدق المرء في هذا العصر أن هناك حروب وغزوات وقعت بين شعوب العالم في زمن قد مضى من أجل التوابل (البهارات). ففي واقع الأمر القول بأن حروبا عديدة قد وقعت بين عدد من الأمم وفي أزمان مختلفة وكانت التوابل السبب الرئيس في اندلاعها. حيث من المعروف أن التوابل لا تنمو إلا ضمن المناطق الحارة والقريبة من خط الاستواء جغرافيا، ولهذا السبب لا تجدها في أوربا على سبيل المثال، حيث كانت تصل إليهم من بلاد الشرق بواسطة تُجار عرب أو هنود عبر إيطاليا في البحر المتوسط أو من خلال الأراضي الواقعة ضمن منطقة (أورآسيا) ومنها أراضي الأناضول أو آسيا الصغرى، حيث تُباع في أسواق البلاد الأوربية وبأسعار عالية جدا حتى وصلت قيمة الفلفل الأسود إلى ما يُعادل قيمة الذهب في روما. ولهذا بدأ الأوربيون بالتفكير جِديا في البحث عن الطرُق والوسائل الجيدة للوصول إلى الموطن الأصلي للتوابل والمراكز التجارية الرئيسية لها. كان البرتغال والأسبان من أكثر الشعوب الأوربية المهتمة بالأمور الاستكشافية حيث أن الموقع الجغرافي لهذين البلدين والمُتَمثّل بشبة جزيرة تُحيطها البحار تقريبا من جميع الجهات (البحر المتوسط شرقا والمحيط الأطلسي من باقي الجهات)، كان سببا مهما لتفوقهما في مجال الملاحة وبناء السفن هذا إلى جنب امتلاكهما للإرث الكبير الذي خلّفه العرب في بلاد الأندلس في مجال العلوم الجغرافية والملاحية. وقد أتفق الطرفان فيما بينهما أي الأسبان و البرتغاليون على اقتسام أي أرض جديدة لم يتم اكتشافها دون أن يُعلموا أحد بذلك من الدول الأوربية المنافسة. كان الأمير هنري شقيق ملك البرتغال من أبرز المهتمين بالمغامرات الاستكشافية وقد سمي لاحقا بهنري الملاح، وقد لعب هنري دورا كبيرا في رعاية العمليات الاستكشافية ونظّم حملات مهمة نحو الجنوب على طول الساحل الأفريقي الغربي، ففي عام 1473م تمكن البرتغاليون من عبور خط الاستواء وفي عام 1487م وصلوا إلى طرف أفريقيا الجنوبي (رأس الرجاء الصالح) وهذا الإنجاز مهد الطريق لهم للوصول إلى جزيرة الملايو (جزيرة التوابل) وبعدها تمكنوا من الوصول (ملقه) الواقعة في جنوب شرق آسيا، والتي كانت تُمثّل المركز الرئيس لتجارة التوابل المُختلفة مع قارة أوربا. وهناك اشتبك نائب الملك البرتغالي ((البوكرك)) مع تجار العرب وتمكن من الاستيلاء على ملقه عام 1511م وأصبح البرتغاليون بعد ذلك سادة تجارة التوابل في أوربا وأصبحت عاصمتهم لشبونا المركز الرئيسي لهذه الجارة المربحة بشكل مُلفت للنظر. واستمرت عمليات البحث عن التوابل حتى تمكنت بعثة الملاّح ماجلان (الذي دار حول العالم عبر المحيط الهادي) من العثور على جزيرة الملايو، وبعدها ظلّ البرتغال لمدة 60 سنة سادة هذه التجارة لا ينازعهم أحد على زعامة تجارة التوابل والبهار في أوربا. أما الأسبان فقد تمكّنوا من احتلال جزر الفلبين عام 1565م وتأخروا في الوصول إلى جزر التوابل وذلك لانشغالهم فترة في أميركا، كما إن الأسبان لم يهتموا بالتجارة كثيرا بل انصرفوا للاهتمام بالأمور العسكرية والتبشيرية والاستيطان وتركوا التجارة للبرتغاليين حتى أصبحت البرتغال إمبراطورية تجارية بامتياز. وفي عام 1529م عقد البرتغال والأسبان اتفاقية رسم خط يقع على بُعد 1480كم شرق جُزُر ملوك البرتغال في اندونيسيا الحالية، أعطت هذه الاتفاقية جميع الأراضي الواقعة على طرق المحيط الهادي لأسبانيا وأعطت الأراضي الواقعة غرب الخط إلى البرتغال ماعدا الفلبين بقية أسبانيا محتفظة بها، ونتيجة لهذا الاقتسام أصبح العالم الجديد المؤلّف من الأمريكيتين من حصة أسبانيا بينما آلت الهند والمحيط الهندي وجزر التوابل للبرتغال. ويمكن القول أن أسبانيا أضحت سيدة أوربا في امتلاك الأراضي والبرتغال سيدة التجارة الأوربية. وفي القرن السادس عشر أصبح الشرق خاضعا لهيمنة الإمبراطورية البرتغالية واحتكرت التجارة على طول حدود المحيط الهندي حتى تغلّبوا على تُجّار العرب (المعرفين بمهارتهم) عند مدخل البحر الأحمر والخليج العربي. إن النجاح الذي حققه الأسبان والبرتغاليون قد أثار حَسدْ الشعوب الأوربية الأخرى، فقامت ثورة في الأراضي المنخفضة المؤلفة من هولندا وجزء من بلجيكا ضد حُكم أسبانيا وقدّمت انكلترا التي لم تكن دولة قوية في حينه يد العون بصورة غير مباشرة إلى هولندا، حيث قام البحارة الانكليز بأعمال القرصنة ضد السفن الأسبانية وكان زعيم هؤلاء القراصنة السير " فرنسيس ديرك "، ففي عام 1577م قام فرنسيس بغزو المستعمرات الأسبانية وحقق نجاحات مهمة في تلك الغزوات. لقد أدت تلك المناوشات البحرية إلى إشعال فتيل الحرب بين إنكلترا وأسبانيا، وكان الهولنديون يُحاربون إلى جانب الإنكليز وكان البرتغاليون يقفون في الحرب مع الأسبان، وقد تمكنت إنكلترا من حسم المعركة لصالحها وتحطيم أسطورة الأسطول الأسباني (الارمادا) الذي لا يُغلب فأدهشت إنكلترا العالم بهذا الانتصار الفذ. وبعد هذا النصر الكبير هاجم الانكليز والهولنديون بلاد الشرق التي كانت تحت سيطرة أسبانيا والبرتغال، ولم تستطع البرتغال الدفاع عن نفسها ومنوا بهزيمة فادحة وأخذوا يَخسرون إمبراطوريتهم تدريجيا، ابتداء من البحر الأحمر إلى جزر التوابل وسقطة مدينة تلو مدينة بأيدي المستعمر الجديد، وأخذ الانكليز يستولون هم والهولنديين على المدن ولم تسلم ملقه من أيديهم أيضا ولم يبقى للبرتغاليين سوى بعض المراكز الثانوية في الهند وغيرها. أما الأسبان المتواجدين في جزر الفلبين فقد استطاعوا الدفاع عن أنفسهم وتمركزوا في مناطق نفوذهم بشكل حصين. هكذا تحوّلت السيادة التجارية لمنطقة الشرق إلى أيدي الإنكليز والهولنديين وقامت شركات تجارية في تلك الأماكن، منها شركة الهند الشرقية التي تأسست عام 1600م بموافقة الملكة إليزابيث في إنكلترا وأسست هولندا عام 1602م شركة " الهند " الشرقية الهولندية، بهدف أن تحل محل البرتغال في تجارة التوابل (الغنيمة الثمينة) مع أوربا. فاحتكرت هاتان الشركتان تجارة التوابل في الملايو، ولكن لم ينتهي النزاع على تجارة التوابل وكثيرا ما دبّ الخلاف بين هولندا وإنكلترا عليها حتى انسحبت إنكلترا من هذه التجارة وكرّست جهودها للاحتلال والسيطرة على الهند حيث انتهت الحرب من أجل التوابل في حينها. المصــــادر:ــ 1 / لمحات من تاريخ العالم ـ جواهر نهرو. 2 / موجز تاريخ العالم ـ ج.م.روبرت. 3 / الأطلس العام ـ صادق صالح. 4 / الحرب والتقدم البشري ـ ج1 ـ جون نيف.
أقرأ ايضاً
- الرزق الحلال... آثاره بركاته خيراته
- نتائج التسريبات.. في الفضائيات قبل التحقيقات!
- القرآن وأوعية القلوب.. الشباب أنموذجاً