حجم النص
بقلم:عباس عبد الرزاق الصباغ لم يخلُ الفصل التشريعي الاخير للبرلمان العراقي من المشاكسات والمناكفات السياسية والسفسطات الجدالية العقيمة والتراشقات الكلامية/الإعلامية والاستنتاجات الفارغة التي لا تشفي الغليل ولا تسمن من جوع وهو مقبل على نهاية فصله التشريعي الأخير من دورته البرلمانية الحالية التي أوشكت هي الاخرى على الانتهاء، وبحسب المراقبين فان اكثر من ثلاثمائة مشروع قانون لم يتمَّ التصويت عليها لأسباب تنبع اغلبها من جوهر العملية السياسية نفسها ومن الخلل البنيوي التأسيسي للدولة العراقية، ومن عدم هضم الديمقراطية كفلسفة سياسية وتطبيق إجرائي من قبل الكثير من السياسيين العراقيين وبما يمكن ان يُطلق عليه استعارةً بالمراهقة السياسية او عدم النضج في التمثيل البرلماني او ان الممارسة السياسية بالنسبة للبعض (وليس الكل) هي الدخول في معترك السياسة لتجربة الحظ، وتأتي المحاصصة والمنهج التشاركي التوافقي لتزيد في هذا الطين بلةً،وبدلا من ان تكون قاعة البرلمان مؤسسة هدفها التشريع والرقابة وتمثيل حقوق المواطنين (كل نائب يمثل مئة الف مواطن) تحولت هذه القاعة الى حلبة اشتباكات ومزايدات ومناكفات ومضاربات ومسابقات ماراثونية من اجل الحصول على اكبر مغنم من مغانم السلطة واقتطاع اكبر "لقمة" من الموازنة المالية العامة المحتسبة من موارد الاقتصاد الريعي (النفط) والمقدر بحسب سعر البرميل المصدَّر في الأفق الحالي اي ان الموازنة العامة تكون تحت رحمة سعر البرميل الذي تحدده اوبك، وهذه الموازنة "الريعية " المتكالَب عليها لم ترَ النور بعدُ فقد أضحت كل مناقشة او قراءة لمعظم القوانين خاضعة لمعايير وانساق برلمانية جديدة لم تألفها برلمانات العالم وذلك بدخول اي قانون سوق المزايدات والمساومات والصفقات ومن ثم اذا اقتضى الامر الدخول في غياهب "المناقشات" والقراءات الأولى والثانية والثالثة ولعبة الكر والفر مع مجلس الوزراء والمحكمة الاتحادية فضلا عن معضلة إكمال النصاب المزمنة وسبر أغوار السفسطات الأرسطية واخيرا يدخل القانون المزمع قراءته او مناقشته وإقراره في متاهات الاحترابات الكتلوية والاصطفافات الجهوية ومعمعات التسقيطات السياسية والتلويح والتهديد بكشف " المستور" واللجوء الى القانون او التهديد بالأذرع المليشاوية وبطبيعة الحال تدخل وسائل الإعلام والفضائيات المغرضة على الخط لينتقل التصارع والتطاحن الى الأثير او على مواقع التواصل الاجتماعي لتشتعل الحروب الالكترونية حامية الوطيس. واللغط ذاته (الذي اصبح تقليديا برلمانيا) اثير حول قانون التقاعد العام...القانون الذي ظل يرواح سبع سنين بلياليها ما بين مجلس الوزراء ومجلس النواب وكانت عيون الفقراء والمسحوقين والمتقاعدين المعتاشين على "فلاسين" الموازنة العامة ذات الارقام "الانفجارية" ترنو صوب اقرار هذا القانون وبعد التي واللتيا تم إقرار هذا القانون المثير للجدل قبل وبعد اقراره!! والجدل يحوم حول المادة 37 منه حيث اعيدت جميع الامتيازات الممنوحة للبرلمانيين وذوي الدرجات الخاصة والتي الغتها المحكمة الاتحادية وهي امتيازات مخالفة للدستور العراقي الذي لم ينُصَّ على اي منها لاسيما رواتب تقاعد البرلمانيين وذوي الدرجات الخاصة وهو مايؤسس طبقية سياسية تغتني من المال العام على حساب ابناء الشعب الذين يعيش الكثير منهم تحت خط الفقر مع تذبذب واضح في مستوى الخدمات المقدمة ومشاريع البنى التحتية وارتفاع مناسيب الفساد المالي والاداري والرشوة والبطالة فهي امتيازات مخالفة للدستور من جهة وغير مقبولة جماهيريا وشعبيا، فالكثير من المواطنين غير راضين عن الاداء البرلماني لدورتيه وايضا المرجعيات الدينية ابدت تحفظها الشديد، ويؤسس كذلك تقليدا برلمانيا مستقبليا في الاستحواذ على اكبر قدر من "الكعكة" الريعية الدسمة بتشريع قوانين والتصويت عليها رغم ارادة الجماهير المغلوبة على امرها. هذا القانون صُوِّت عليه بالاقتراع السري وبالاغلبية وبمشاركة جميع الكتل المنضوية تحت خيمة البرلمان وجميع فقراته تُدرج للتصويت المباشر ولايوجد شيء مخفي او مدلَّس او يمرر بحسب "نظرية المؤامرة" او "لعبة" من كتلة ضد كتلة اخرى لتسقيطها في نظر الراي العام فجميع النواب شاركوا في عملية القراءة والتصويت سواء بالقبول او الرفض او الامتناع "الفيتو" ولو لم يُصوَّت عليه باغلبية مريحة لم يكن لهذا القانون ان يرى النور لكن المفارقة ان اغلب البرلمانيين ـ ان لم نقل كلهم ـ قد هرولوا زرافات ووحدانا الى الدائرة الاعلامية لمجلس النواب ليعلنوا "براءتهم" من هذه المادة التي اعادت اليهم جميع امتيازاتهم و"حقوقهم" والبعض اعلن "توبته" النصوحة امام الملأ وصارت كل كتلة تلعن اختها وتهددها بكشف اسماء المصوتين على هذه المادة التي تحولت الى ورقة انتخابية تسقيطية رابحة وسيف تسلطه كل كتلة على رقاب الكتل الاخرى المنافسة والمناوئة من جهة وورقة ضغط لتعزيز ديكتاتورية رؤساء الكتل ضد اعضاء كتلهم للانفراد بالقرار ومحاولةً للخروج بوجه " ابيض" في المعترك الانتخابي المقبل. وصار الكشف عن اسماء المصوتين على هذه المادة رائجا في سوق المناكفات والتطاحنات السياسية فبعض البرلمانيين صار يهدد الكتل الاخرى بتقديم "قائمة" باسماء مرشحيها الذين صوتوا(من غير كتلته بالطبع) على هذه المادة لـ "يفضحهم" امام الراي العام،وغيره من كتل اخرى يقدم "قائمة " للغرض ذاته مبرئين انفسهم وكتلهم من المادة 37 براءة الذئب من دم يوسف والقاء التبعة كلها على الاخرين ولا ندري كيف تسنى لهم ذلك وقد كان التصويت سريا فهل هو رجم بالغيب او تواطؤ مع رئيس البرلمان الذي هو صاحب القرار في الكشف عن الاسماء من عدمه ؟ وبعضهم حلل الشيفرة الجينية لسر التصويت بانه كان "استغفالا" لهم فهل تُمرر القوانين خاصة المهمة والستراتيجية منها عن طريق الاستغفال والضحك على ذقون نواب الشعب ؟ ويدعون بان هذه الفقرة لم تكن ضمن اصل القرار المدفوع للتصويت، اية رسالة يقدمها هؤلاء لناخبيهم وللرأي العام وللأثير المدجج بما لايُحصى من الفضائيات التي تنقل كل شاردة وواردة.وسيبقى اللغط يحوم حول كل قانون او فقرة من هذا النوع مستقبلا لان أُس الخلل لا يكمن في الجوانب التنظيمية او الإدارية في عمل البرلمان فحسب وانما هو خلل بنيوي مؤسساتي لاتخلو منه بقية السلطات. إعلامي وكاتب مستقل [email protected]