حجم النص
بقلم حيدر فوزي الشكرجي عاشوا في منطقة لم يتعرف عليها أحد من قبل زهدوا الدنيا وكرهوا الطعام فنحلت أجسامهم وجحضت أعينهم، قلة منهم جن وأكثرهم كانوا سيئي الحظ فاحتفظوا بعقولهم وأصابهم السقم، و كان بينهم وبين الموت خيط رفيع إلا وهو سماع خبر عن أولادهم المفقودين. داخل كل واحد منهم صرخة مكتومة لو أطلقوها لزلزلوا عروش الظالمين، ولكن لخوفهم على باقي الأحبة والأمل أن تحن عليهم يوما قلوبا أقسى من الحجر، أبقوها مدفونة في قعر بحر من الإحزان داخلهم. هؤلاء هم ذوي شهداء المقابر الجماعية وخاصة الأمهات، كانوا لا يتكلمون إلا قليلا ويسيرون كالأموات، ولا تلمع أعينهم بالحياة إلا عندما تطرق باب الدار لتخيلهم أن هنالك خبر عن أبنائهم، جل الأبناء كانوا في عمر الزهور لم يكونوا من آهل العقوق فأكثرهم كان ذا خلق ودين، وهذا ما عظم مصيبة فقدانهم على ذويهم. انتزعتهم زبانية هدام اللعين من أحضان أمهاتهم لأنهم كانوا أحرارا لم يرضوا العيش كالعبيد، عذبوا واستشهدوا في سجون الطاغية ودفنوا في آماكن مجهولة بعيدة عن أعين الناس، ولم يبلغ الأهالي بأماكن سجنهم قط أو حتى بموتهم. عاش الأهالي حياة مريرة لفترة تزيد على العشرين سنة، وهي فترة مقاربة لغياب نبي الله يوسف (عليه السلام) عن أبيه، حتى سقط الطاغية وعاد الأبناء خيرة شباب العراق إلى ذويهم ولكن عظام في أكياس مرقمة! من نعم الله عليهم إن أكثرهم توفوا إلى بارئهم بعد فترة وجيزة من معرفتهم بمصير أبنائهم، توفوا سعداء لأنهم اعتقدوا أن دماء أبنائهم كانت قربانا لمذبح الحرية وان العراق سينهض من جديد. أمانة ثقيلة حملوها لشرفاء العراق، وهي صون دماء الشهداء ومنع رجوع الجلاد، أرادوا أن نتذكر رجالا وقفوا بوجه سلطان جائر سلاحهم كان إيمانهم وقدوتهم كان الحسين (عليه السلام)،أرادونا أن نكون أحرارا بعد أن كان أغلبنا عبيد. عذرا لشهدائنا وذويهم فسلطان عصرنا ليس له شهيد، السلطان عفا عن الجلاد والشعب صامت بين مصدوم ومتملق وخائف من الجلاد، كلا وألف كلا افتحوا المقابر من جديد وضعونا مع شهدائنا لنواجه نفس المصير، فما دمنا أحيائا لن يبعث البعث في العراق من جديد.