حجم النص
بقلم :أحمد عبد الحسين
لجنة النزاهة البرلمانية قالت إن ثلاثين ألف موظف في الدولة العراقية دخلوا الوظيفة بشهادة مزوّرة، وإن ألفي مسؤول كبير "بدرجة وزير أو وكيل وزير أو مدير عام إضافة إلى بعض النوّاب" أصبحوا بفضل تزوير شهاداتهم مسؤولين و.. كباراً.
وأنا أقرأ هذا الخبر تذكرت أيام الثمانينات، أيام كان كثير من شباب العراق مزورين محترفين، كان التزوير يدعو للفخر، لأن من يقوم به يريد أن ينقذ حياته وحياة من يزوّر لهم الوثائق من سلطة غاشمة، ويقف بالضدّ من نظام يسوق الجموع إلى محرقةٍ بدا وقتها وكأنها بلا نهاية، ولأنّ في الأمر مغامرة تجعل المزوّر عدواً لأقسى جهاز أمنٍ في العالم.
كنا مزورين محترفين، حين فصلت من كليتي، لأني لم أشترك في معسكرات التدريب على السلاح في 1987 ، قررت أن لا ألتحق بالجيش، وكان لا بد لي أن أتعامل مع جيش آخر صار لي منهم أصدقاء، جيش مزوري الهويات والوثائق وأوراق الإجازات العسكرية.
كانوا يزوّرون كلّ شيء تقريباً، صديق لي كان يزوّر هوية انضباط عسكريّ "هل تتذكرون الزنابير؟"، هو مغرم بتزوير هوية الكائن الذي يسبب لنا الرعب حتى في أحلامنا، وأدوات التزوير مضحكة أحيانا، نعال إسفنج يمكن أن يكون ختماً لوزارة الدفاع أو ختم كلية الفنون الجميلة.
كم من مرة قبض علينا، لكنّ أغرب حادثة وقعت لي حين كنت أسير بهوية لصديقي وليد عبد الله "وكان طالب كلية" وضعت فيها صورتي، التزوير محكم للغاية لكن حظي العاثر جعل الشرطيّ الذي أمسك بي صديقاً لعائلة وليد ويعرفه جيداً، والتقى بوليد قبل لحظات.
قُبض عليّ وقتها وحجزت لساعات، وكانت تنتظرني عقوبات قد تصل للإعدام "هروب وتزوير وثائق"، ولم ينقذني إلا نقيب شرطة اسمه وجيه، هو ذاته وجيه عباس صديقي الشاعر والكاتب. مزّق الهوية وقال لي: افلتْ .. الكط اللاين فلكطته.
شكرته مراراً من قبلُ، وهذا العمود فرصة لشكره مرة أخرى. بعد حادثة القبض عليّ متلبساً فررت من العراق لفترة قصيرة استمرت 18 سنة فقط، ولم أعد إلا بعد سقوط صدام، الرئيس الذي كانت أهون خطاياه أنه أجبرني على التزوير.
كنت مزوّراً حين كان التزوير بطولة ومنقذاً من الموت، أما اليوم فإن التزوير بات يصنع وزراء وبرلمانيين ووكلاء وزراء ومدراء عامين. وكم أشعر بالندم أني ضيّعت مستقبلي على هذا النحو المفجع، لم أكمل دراستي، وتغربت طويلاً، بينما بمقدوري العودة إلى خبرتي القديمة لأصبح وكيل وزير أو على الأقل رئيس مجلس بلديّ!!
أفكر بجدّ في تزوير وثائق تجعل لي راتباً فلكياً وتدخلني في عصابة الصفقات المشبوهة وتركبني سيارة مصفحة وتجعل لي حماية ويسمونني سيادة النائب أو معالي الوزير. أشعر بالحيف أني ليس بيني وبين أن أكون وزيراً أو وكيل وزير أو نائباً في البرلمان سوى نعال إسفنج!
ما رأيكم .. أزوّر أم لا أزوّر؟ ذلك هو السؤال!
أقرأ ايضاً
- حماية البيانات الشخصيَّة
- الجنائيَّة الدوليَّة وتحديات مواجهة جرائم الكيان الصهيوني
- التعدد السكاني أزمة السياسة العراقية القادمة