- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الكويت.. عقدة الماضي وهاجس الحاضر
ثمة إشارة مؤسفة أفادت بوصول ملف العلاقات العراقية الكويتية ـ المتذبذبة اصلا ـ الى أروقة الأمم المتحدة أي تدويل هذا الملف ما يرجع الى الذاكرة (العراقية والكويتية المشتركة) وصول ذات الملف الى متون التدويل الاممي غداة الغزو الصدامي البربري لدولة الكويت الشقيقة آب 1990 ويعيد الى الذاكرة العراقية تحديدا فلسفة \"قطع الأعناق ولاقطع الأرزاق\" تلك التي برر بها النظام البائد اجتياحه الوحشي لهذه الدولة ، ومرة أخرى يدخل العامل الاقتصادي في تأجيج الموقف بين الطرفين الى درجة المرارة المتأتية من المواقف اللامسؤولة لبعض الجهات الرسمية والبرلمانية والإعلامية وحتى الشعبية الكويتية التي شنت وما زالت، حربا كلامية وإعلامية غير مسبوقة حد الإساءة والشماتة (كما حدث عشية الثاني من آب 90) وتعبر عن احتقان مزمن وتنفيس عن عقد تاريخية هم أدرى بأسبابها ونتائجها من غيرهم وبعضهم وصلت بهم الهستيريا الى درجة التلويح بطرد السفير العراقي من الكويت مع العلم ان جميع الأنظمة المتعاقبة على العراق لم تفتح ،ولم تفكر حتى، بفتح سفارة لها في الكويت لأسباب سياسية معروفة فكان فتح صفحات جديدة مع دول الجوار سيما الكويت من إحدى أولويات العملية السياسية ما بعد التغيير وهي ذات توجهات الشارع العراقي بكل ألوان طيفه ، والتلويح بان الكويت الآن هي ليست كويت / 90 وكذلك جيشها في إشارة الى إن الأمور قد تغيرت لكنْ الإخوة الكويتيون لم يشيروا الى إن التغيير الحقيقي والجوهري هو ما حصل في العراق وعلى الأصعدة كافة والصحيح ان العراق الآن هو الذي يختلف اختلافا كليا عن عراق/ 90 وهذا الاختلاف يدخل لمصلحة الكويت في الدرجة الأساس والمنطقة عموما .
وكقراءة جيبولوتيكية أولية للإطار الجيوستراتيجي المحيط للعراق نجد ان إنشاء ميناء مبارك المثير للجدل انه لم يكن القشة الوحيدة التي قصمت ظهر العلاقات العراقية الكويتية فهناك الكثير من الملفات العالقة والمؤسفة في الوقت نفسه مازالت تثير الإحن والشجن في نفوس عموم العراقيين ، اضافة الى وجود ملفات اخرى مع بقية دول الجوار هي عبارة عن ملفات شائكة يصل الكثير منها الى مستوى الأزمة مثل قضية المياه مع تركيا والقصف الإيراني المستمر للقرى في كردستان وتسلل الارهابيين عن طريق سوريا ناهيك عن المسلسل الطويل من التدخلات والتداخلات السلبية مع تفاصيل المشهد العراقي ومكونات ذلك المشهد ، وبعضها مازال يترادف مع البعض الآخر في أوقات متقاربة ما يثير جدلا مثيرا ومحزنا في ذات الوقت وهو: هل ان العراق دولة رخوة ؟ وان كان ما حصل في العراق بعد الاحتلال الأميركي له يشبه في الكثير من الأوجه ما حصل لألمانيا عقب احتلاها من قبل الولايات المتحدة بعد خسارة الأولى في الحرب العالمية الثانية؟ لكن ألمانيا وإن خسرت الحرب لكنها لم تخسر نفسها كدولة لها مقوماتها ومرتكزاتها او كشعب له تاريخه ونسيجه الديمغرافي فقد خرجت من رماد الحرب الى آفاق الدول العظمى وكذلك اليابان ،فلم تتعاط َ دول جوار ألمانيا على إنها دولة رخوة مستغلة ظروف الهزيمة الفادحة التي ألمت بها جراء الحرب والاحتلال فضلا عن تسببها بالخسائر الجسيمة للكثير من الشعوب المجاورة وغيرها كبولندا التي احتلها هتلر عام 39 ما ادى الى نشوب الحرب العالمية الثانية، فتحمل أوزارَ وآثامَ وخطايا تلك الحرب والمآسي التي لحقت بالشعوب هتلرُ والحزبُ النازي والفاشستية الموسولونية في ايطاليا، بالمقابل مايزال ابسط شخص في العراق يتحمل جميع أوزار وآثام ما ارتكبه النظام الديكتاتوري الشمولي الفاشستي البعثي البائد ومازال يدفع من عرق جبينه ومن لقمة أطفاله وعلى حساب استقراره التعويضات المجحفة ومتعرضا بين فترة واخرى لسيل من الشماتة والتهريجات الإعلامية والسفسطات السياسية غير المنطقية التي لاتجدي نفعا وبعيدا عن العقلانية واستثمار المناخ الإقليمي المتجه نحو التهدئة والسلام والرخاء الاقتصادي خاصة من العراق الديمقراطي الجديد .
ومنذ استقلال الكويت عام 1961 ولحد اللحظة كانت أكثر من عقدة تراود مخيلة الكويتيين وكانت تتفاعل مدا وجزرا في العلاقات مع العراق لكنها اشتبكت وتشابكت جميعها بعد كارثة الثاني من آب / 90 فتحولت تلك العقد الى فوبيا مزمنة قد تصل حد الاستعداء المعلن، كما إن الكويت وان كانت ما تزال لحد الآن تعيش عقدة \"الغزو\" الصدامي لم تستثمر المشهد العراقي الجديد بعد التغيير النيساني ليس لفتح صفحة جديدة باعتبار ان النظام البائد هو المسؤول الوحيد عن كارثة الغزو التي دفع ثمنها باهظا كلا الشعبين ، وانما لفتح آفاق المستقبل باعتبار ان العراق والكويت جاران شقيقان شاء القدر أن يمرا بنفس الظروف ويشتركا بالمحنة عينها وهذا \"الاستثمار\" للأسف لم يحصل إلا بشكل جزئي او نسبي اذ بقيت العلاقات تغلفها الريبة والتوجس والشك والمرارة في بعض الأحيان كون موقف الكويت كان سلبيا جدا خاصة حيال مسألة التعويضات وفي هذا الظرف العسير بالذات ومسألة خروج العراق من طائلة البند السابع ومسألة ترسيم الحدود وملف الخطوط الجوية العراقية وغيرها العشرات وأخيرا جاء ميناء مبارك الكبير وتناسى بعض المسؤولين الكويتيين ومعهم بعض رموز السلطة الرابعة وموجهي الرأي العام إن العراق ليس بلدا طارئا ولم ينشأ بفعل توافقات او أحلاف ولم يكن كيانا سديميا عائما في تخوم الشرق الأوسط فالعراق بثقله الجيوستراتيجي وأهميته المحورية ليس دولة رخوة وهذا مالا يحاول الكويتيون استيعابه لحد الآن .
ولا يخفى عن المراقبين والمحللين السياسيين او الإستراتيجيين بان إنشاء ميناء مبارك في هذا التوقيت والموقع بالذات له أكثر من مغزى وهدف سيما ان الكويت محاطة بما يقرب من خمسمائة كيلومتر من السواحل وفي ظل الفوضى التي تعتري المشهد السياسي العراقي والتوتر الذي يبدو مزمنا على مجمل الحراك والفعاليات السياسية والحزبوية ومع بدء العد التنازلي لانسحاب القوات الأمريكية من العراق (في حال اتفاق الفرقاء السياسيين على ذلك !!!!) وقد يكون المغزى الأكبر من هذا الحراك هو ان بعض دول الخليج العربية تسعى الى لعب الدور الذي كان يفترض بالعراق ان يلعبه منذ سبعينيات القرن الماضي وهو اهم مفصل جغرافي وديموغرافي وحضاري في الشرق الأوسط لكن الديكتاتورية الصدامية أضاعت على العراق أكثر من فرصة تاريخية للعب هذا الدور المحوري فتقهقر العراق وقفز الآخرون (جميع دول الجوار) على أكتاف أهميته الإستراتيجية النوعية وفي تسابق مع الزمن خصوصا منذ الحرب العراقية الإيرانية وبقية حروب الخليج وتحاول تلك الدول أن تتزاحم مع العراق لاقتناص تلك الفرصة او ما تبقى منها ، وما تنفيذ ميناء مبارك إلا جزء من سيناريو طويل الأمد هدفه تحقيق بعض مفردات نظرية الاحتواء الكسينجرية، وهذه المرة دخل الى الساحة \"لاعبون\" جدد وبمستويات وأحجام مختلفة، فنقول عسى أن يكون هؤلاء \"اللاعبون\" قد فهموا الدرس القديم المستنبط من نتائج الحرب العراقية الإيرانية التي كانوا فيها لاعبين من وراء الكواليس .
إعلامي وكاتب عراقي [email protected]