كلما بدا ان كتلة حسمت مرشحها لرئاسة الحكومة، تجد الفرح المبالغ فيه يتملك فريقا من الناس والوجوم المبالغ فيه ايضا، يتملك فريقا آخر. يحصل ذلك وكأن انقلابا عسكريا وقع لصالح هذا وضد ذاك، لا ان الأمر مجرد تغيير او تثبيت يفترض ان يكون اداريا.
ما يمكن لنتائج الانتخابات ان تفرزه، ليس سوى نتيجة ادارية تتعلق بتثبيت او تغيير موظف كبير، وهذا ما يشعر به المرء في اميركا او اليابان او حتى تركيا. لكن ما يجري لدينا يظل \"بطعم الانقلاب\" ولذلك يبرر ان يجري وسط تحذير من انهيارات امنية وسياسية واقتصادية. تحذيرات تجعلنا نحن العزل المكشوفون في سيارات نقل الركاب او الاسواق الشعبية وهي الهدف المفضل لكل عنف، نشعر بأننا ندفع ثمن معارك لسنا طرفا فيها.
من المسؤول عن اشاعة هذا الجو من التخويف والتخويف المضاد بعد 8 اعوام من سقوط صدام حسين \"سيد الخوف\" بامتياز؟
الفعل المسالم الذي يحصل قرب صناديق الاقتراع بالقلم الأنيق والورقة البيضاء المصيرية، يجب ان يتحول في الظرف الطبيعي، الى فعل مسالم آخر في البرلمان لتشكيل الادارة الجديدة او تثبيت الادارة القديمة.
لكن الفعل السلمي للمواطن في مراكز الاقتراع، يتسلمه الساسة ويقومون بتحويله الى شعارات مليئة بالوعيد، يشعر بالذعر منها كل من ذهب ليدلي بصوته.
المواطن يريد ان يتحول من منقلب الى مقترع، بينما السياسي يقوم بتحويل المواطن من مقترع الى منقلب او منقلب عليه.
لا شك ان المواطن والسياسي ابناء ثقافة واحدة تشجع على انعدام الثقة وامكانية الاستحواذ ومصادرة الخصوم، لكن الفرق ان المواطن اعزل يريد ان يهرب من شبح العراك، بينما السياسي مسلح، يتشوق للتصعيد حتى لو قاد الى عنف ما. ذاك يستخدم ورقة الانتخابات وهذا يعتبر الانتخابات مجرد اعتراف بحجم ترسانته (حقه) التي تتضمن اوراقا عنفية ومالية وحتى دولية.
في كل الدنيا التي توافق على اجراء الاقتراع الشعبي، نجد التهاني المتبادلة هي سيدة الموقف حين يفوز هذا او يخسر ذاك. الخاسر يقول انه سيعوض الخسارة بالعمل الجاد بعد بضعة اعوام، اما الفائز فيقدم وعدا للجميع بأنه \"الاخ الاكبر المسؤول\" عن تهدئة النفوس.
اما في بلدنا فإن الفائز يتوعد الخاسر \"بعقوبة شديدة\" فيستقتل الاخير عبر ألف سبيل وسبيل، \"لرد الصاع صاعين\".
ساستنا يعتقدون ان هناك فرصة واحدة تحدد مصيرهم، فإما ان يصعدوا نحو القمة بلا توقف، او ينحدروا دون امكانية لاستعادة المكاسب. دائما يعتقد هؤلاء ان هناك \"عشاء اخيرا\" اما ان يكون في الفردوس او في الجحيم. ولذلك فإنهم لا يطيقون الانتظار، ويريدون الوصول الى الفردوس بأي ثمن. ربما يفسر هذا ان جولات الحوار كانت تنفض بسرعة، ثم تتعلق المفاوضات وتتجمد. الجميع كان مستعجلا، والعجول نفسه قصير غير قادر على المطاولة، عصبي المزاج ويغير مواقفه كثيرا، وليس هناك منطق واضح يحكم تصرفاته، ولا معيار محدد لرسم المكاسب المتوقعة.
لقد احترف كبار الساسة لدينا، ملايين الطرق لترويع الخصم. لكنهم لم يحاولوا ان يسألوا انفسهم: كيف نطمئن الخصم ونكسبه ونعده اهلا للخصومة ومؤهلا للتنافس في قواعد الفروسية؟
كل الساسة ينادون منذ 8 اعوام بأنهم مستعدون \"للاصلاح والمراجعة والنقد الذاتي والحوار الوطني\" لكن جميعهم قام بتكذيب جميعهم. ثم قام الجميع بتكذيب انفسهم، بينما كنا نحن الجمهور، نحاول ان نصدق كل كلمة تخرج من افواههم في باب الحوار والتصالح.تسألهم: لماذا لم تحاولوا تصديق بعضكم. يقولون ان تراكم المشاكل التاريخية يجعل بناء الثقة صعبا. ومع الوقت ستتضاءل المخاوف وسنتحول الى اصدقاء.
لقد مرت الاعوام ولم تتحولوا الى اصدقاء. لقد صنعتم تاريخكم الخاص في هذه الاعوام الثمانية، وصار الماضي بلا قيمة ازاء ما مر علينا من ويلات في الثمانية العجاف السالفات.
اليوم لم يعد مبررا ان نسمع منكم ان التاريخ القديم يصعب عليكم بناء الثقة، لأننا ندفع حاليا ضريبة تاريخكم الشخصي ذي الاعوام الثمانية وسيرتكم التي كتبتموها توا. مرور الوقت يجعلنا نؤمن بأنكم لا تطمحون لنزع التوتر، بل تريدون ادامة الصراع. لا تفسير آخر لدينا لتبديد فرص التصالح والتشارك.
الجمهور مل العنف. اما الساسة فلم يرتووا منه بعد كما يبدو. لذلك فإن صراعهم يخيفنا. فوزهم وخسارتهم مصدر لخوفنا. حرنا مع صعودهم وهبوطهم. نتمنى ان نشجعهم كي يصدقوا وحسب ان \"العشاء\" ليس اخيرا، وأن من يتغيب عن المائدة اليوم يمكنه الالتحاق بها غدا.
أقرأ ايضاً
- الانتخابات الأمريكية البورصة الدولية التي تنتظر حبرها الاعظم
- التكتيكات الإيرانيّة تُربِك منظومة الدفاعات الصهيو-أميركيّة
- الإجازات القرآنية ثقافة أم إلزام؟