من نافلة القول ان حرية التعبير المكفولة دستوريا هي احدى السياقات الديمقراطية التي تتمتع بها الشعوب المتحضرة والمتقدمة في جميع الانساق الديمقراطية والليبرالية وحقوق الانسان وحق التعبير عن الرأي وعدم مصادرة او تهميش الرأي الآخر المقابل مهما كان وضمن مناخ التشارك الصحيح في مضمار المواطنة المتفاعلة ضمن آليات العقد الاجتماعي الذي تتبلور من حيثياته اواصر الوطنية التي تنتج المجتمع السياسي المتقدم والنزيه وتنتج ايضا مجتمعا اهليا متطورا وواعيا وفي هذا السياق يلعب الاعلام بجميع وسائله المتاحة الدور الاكبر في ممارسة هذا الحق الدستوري والمشروع بصيغه المهنية والموضوعية وان لا يخرج هذا الحق عن مساراته المرسومة له ولهذا السبب فإن الدستور العراقي الدائم قد اشار بوضوح لا لبس فيه في المادة (36) التي جاء فيها :- تكفل الدولة، بما لا يخل بالنظام العام والآداب: اولاً :ـ حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل.
ثانياً :ـ حرية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر.
ومن الطبيعي ان يشوب الانتقال من عهد ليس فيه أية فسحة لأية حرية في التعبير في اجواء لا مثيل لها في ظل ديكتاتورية شمولية احتكرت حق التعبير لنفسها فقط كما احتكرت جميع وسائل الاعلام في ظل رقابة مشددة وعقوبات صارمة تصل الى حد التغييب القسري او الموت الى عهد يتمتع فيه المواطن بحق التعبير والتظاهر وابداء الرأي دون خوف او وجل وضمن الدستور ، تشوبه بعض مظاهر الفوضى (جزء من الفوضى الخلاقة العارمة على المستويين السياسي والمجتمعي) ولايكمن الخلل في البنى التحتية الاخلاقية او المعرفية سيوسلوجيا او ديمغرافيا للمجتمع العراقي بل لكون هذا المجتمع عاش تحت هامش الحياة المدنية وخارج السياقات الدولتية الطبيعية وفي مناخ عائم من اللاإستقرار السياسي او الاقتصادي او المجتمعي مايقرب من تسعة عقود تلت قرونا من العيش في غياهب التخلف الحضاري المدقع وبالمقابل فإن جرعة الديمقراطية الزائدة التي أتت على دفعة واحدة وبدون مقدمات وبانتقال فجائي بعيدا عن جميع الانماط التاريخية والتيارات الراديكالية المعروفة التي تتخذ على عاتقها مهمة التغيير الجذري وبعيدا ايضا عن الفجاءة التي تحملها في طياتها النظم الانقلابية ، لذلك ساهم ايضا الانتقال الفجائي والمباشر الى الديمقراطية في تأسيس جو من الفوضى المعرفية والثقافية العارمة في ظل خلو الساحة الاعلامية من تشريعات تقنن العمل الاعلامي والصحفي وتضبط ايقاعاته وتوجهاته ومن دون مصادرة او تهميش لاي رأي او تعبير سيما ان الدستور العراقي ذاته جعل الباب مفتوحا في مجال حرية التعبير كإحدى الحريات الاساسية المكفولة قانونا ولايوجد مايحد من تلك الحرية الا بوجود قانون ضابط لها او مقنن اياها كما في المادة (44) التي جاء فيها :- لا يكون تقييد ممارسة أيٍ من الحقوق والحريات الواردة في هذا الدستور أو تحديدها الا بقانون أو بناءً عليه، على ان لا يمس ذلك التحديد والتقييد جوهر الحق أو الحرية.
بيد اننا نجد في الكثير من الوسائل الاعلامية فضلا عن بعض المواقع الالكترونية انها اساءت استخدام هذا الحق المفتوح في حرية التعبير التي اتاحها الدستور العراقي وكفلها قانونيا ، وبعشوائية غير منضبطة تارة وبقصدية غير مهنية تارة اخرى وبتسييس القضايا والملفات لاجندات مغرضة تارة ثالثة من غير رادع قانوني تقره التشريعات وتلزمه الجهات القضائية والعدلية المعنية فضلا عن ممارسة الجهات التنفيذية واجهزتها دورها في تطبيق القوانين الملزمة في هذا المجال ما جعل بعض القنوات الاعلامية العراقية بكافة وسائلها تتميز عن نظيراتها الاقليمية والعالمية بفوضى النشر الذي لا يمتُّ الى حرية التعبير بأية صلة وانما هو سوء حق الاستخدام الدستوري للقوانين التي شرعت لغرض تنظيم العمل الاعلامي وفق الضوابط المهنية والاخلاقية لذا نجد الكثير من المواضيع التي تنشر او تبث تفقد الموضوعية والمهنية التي يجب ان يتحلى بها الكاتب او المعد وهي مليئة بالشوائب الفكرية والكيديات السياسية والمناكفات الحزبوية والإستغلال البشع لحرية التعبير من خلال توجيه التهم الجاهزة وتوجيه الشتائم القاذعة لمن يختلف في الرأي او التوجه الايديولوجي وفي بعض الاحيان تصل ذروة تلك العشوائية والتخبط المقصود الى درجة التعرض للرموز الوطنية والدينية والسياسية ناهيك عن السرقات الادبية في الافكار وفي المواضيع والاقتباس للكثير من المواضيع ذات المستوى الجيد دون رقيب او حسيب ما يستوجب تعديل بعض فقرات الدستور لتنظيم حرية التعبير كما هو معمول في دول العالم المتقدمة او تلك التي خطت مشوارا لأباس فيه في هذا المضمار لتكون اساءة استخدام حربية التعبير جريمة يعلقب عليها القانون او جنحة تستحق العقاب كونها تمس الحق العام للمجتمع وتتقاطع مع الآليات الديمقراطية وتشكل خطرا على الذوق العام .
إعلامي وكاتب عراقي [email protected]
أقرأ ايضاً
- المسرحيات التي تؤدى في وطننا العربي
- وللبزاز مغزله في نسج حرير القوافي البارقات
- الرزق الحلال... آثاره بركاته خيراته