في الدول ذات الديمقراطيات الراسخة والآليات المؤسساتية المتجذرة هنالك خط آخر في الأداء الحكومي يتمظهر في المعارضة التي تتشكل حسب مبدأ: ان المشاركة في الحكومة ليست غنيمة او \"فوزا\" عظيما مطلقا او إن ملء الموقع المقابل المحسوب على خانة المعارضة ليس هزيمة او نكوصا مطلقا، فالمشاركة الفاعلة ليست امتيازا والمعارضة ليست اندحارا فكلا الحالين ووفق السياقات الديمقراطية الليبرالية الحرة يجسدهما التشارك الفعّال في الأنساق الحكومية المتأتي من صناديق الاقتراع وبالميكانيكيات الشفافة والنزيهة ،ولكن للديمقراطية الفتية في العراق شأنا آخر إذ ما تزال فكرة المعارضة تعني المشاركة السلبية أو التشارك غير المجدي او التقهقر الى موقع الظل ولم يرتبط مفهوم المعارضة في واقعنا السياسي بدلالته الابستمولوجية بالإيحاء الايجابي البراغماتي المتوافق مع الممارسة الديمقراطية بل ارتبط بالإيحاء السلبي الدوغمائي والضدي النوعي المفترض في مقابل الحكومة أي ضد السلطة وفي الوقت ذاته يكون باتجاه السلطة ايضا باعتبار إن احد أهداف المعارضة هو الوصول الى السلطة او احتكارها..
كما ارتبط هذا المفهوم سابقا بالسلوكيات العنفية والمتشنجة التي لا تتخذ فلسفة التداول السلمي للسلطة معيارا عمليا لهذا الغرض وهذا المفهوم لا يخرج عمّا هو متداول على مستوى العالم الثالث تأريخيا وسيوسلوجيا وسياسيا ويمكن اعتبار العراق أنموذجا اقرب الى توضيح هذا الارتباط من خلال الانقلابات الكثيرة التي شهدها العراق طيلة العقود الثمانية المنصرمة وعدم نزوع النخب السياسية الى مأسسة ديمقراطية حقيقية او حتى شكلية ما أدى الى ضمور التأسيس الديمقراطي كظاهرة حضارية لازمة لاي تطور وقد ساعد على ذلك تفرد المشهد السياسي العراقي بتعاقب ديكتاتوريات شمولية سحقت أية نزعة لأي تأسيس ديمقراطي في البلد ، واضمحلال الوعي الشعبوي بالآليات الديمقراطية فكرا وممارسة فلم يرتبط مفهوم المعارضة بأية ممارسة سياسية متواشجة مع المعطيات الديمقراطية مفهوما أو إجراء .
كما لم يرتبط على المستوى الحكومي / السلطوي بذلك الاتجاه الذي يقبل التشارك النوعي وبالاتجاه الاخر المتمثل بالمعارضة فكلا الاتجاهين الحكومي والشعبوي لم يستوعبا لحد الان فكرة المعارضة التي تعني اجمالا جماعة أو مجموعة أفراد يختلفون مع الحكومة على أساس ثابت وطويل الأمد بالقضايا المتعلقة بإطار تشريع واحد أو اقتراح سياسة .
ويطبق المصطلح تحديدا على الأحزاب في المجلس النيابي التي تختلف مع الحكومة وترغب في الحلول محلها . وفي حالة عدم استيعاب التشكيلة الحكومية لكافة الكتل السياسية المنضوية في العملية السياسية والمستخدمة حقها الدستوري والقانوني في خوض الانتخابات وكذلك في حالة عدم امكانية تشكيل حكومة ائتلافية تضم الجميع او في حالة وجود سقوف مطاليب عالية ومناسيب مرتفعة للفتيوات المتقابلة وخطوط حمر متناظرة ومتشابكة فهذا يعني ان بعض الكتل او الاحزاب ستبقى خارج الاصطفاف الحكومي لكنها ليست خارج العملية السياسية اذ يبقى لها استحقاقها الانتخابي محفوظا بموجب حق التمثيل الذي اهلته به جماهيرها والذي بموجبه وصلت الى عتبات ذلك الاستحقاق وضمن مبدأ التشارك الذي يجعلها ـ كمعارضة ـ الند المكافئ لمن هم في السلطة بلحاظ ان الأدوار لن تبقى ثابتة بتغير الظروف والمصالح ، والسياسة هي فن الممكن كما هو معروف فلاثبات فيها ولاجمود او تحجر وليس من المعقول خاصة في خضم التحولات السياسية المستمرة وضمن الديناميكيات الديمقراطية التي يجب أن مع المصلحة الوطنية العليا ان تخلو الساحة السياسية من عنصر لاغنىً عنه في تفعيل الرقابة على الفعاليات الحكومية بصورة عامة تنفيذية كانت ام تشريعية وتقييم وتقويم ذلك الاداء وهو امتياز سياسي وبحسب الاستحقاق الانتخابي ذاته يكسب من يقوم بهذا الدور خبرة كافية في حال استبدال الادوار وانتقال المعارضة الى دفة الحكم ، هذا من جهة ومن جهة اخرى تساهم المعارضة وهي في قلب العملية السياسية في الاشراف على الاداء الحكومي اضافة الى السلطة الرابعة ومنظمات المجتمع المدني والمؤسسات الرقابية الاخرى وهذه ليست سلطة \" فخرية \" او ترفا سياسيا كما يتصور البعض بل استحالت الى ضرورة وطنية ملحة لأن المعارضة في الكثير من البلدان المتقدمة كبريطانيا والولايات المتحدة جزء مهم من مجمل العملية السياسية وفي صياغة محددات الرأي العام التي تقف بالمرصاد ضد الممارسات الخاطئة سياسيا او اقتصاديا او امنيا وغير ذلك ولكن ليس بشكل كيدي او بتسييس الرقابة لتسقيط الحكومة المنتخبة ولاحداث فراغ دستوري يشل حركة البلاد والعباد .
فما أحوج العملية السياسية في العراق الى دور رقابي تقوم به معارضة نيابية فاعلة ينظم بآليات دستورية وقوانين ملزمة للجميع حتى لا يكون هذا الدور شكليا كما يقع على وسائل الاعلام ومؤسسات الرأي العام ومنظمات المجتمع المدني والجهات ذات العلاقة مهمة توعوية وتثقيفية
لجميع شرائح المجتمع بأهمية وجود معارضة فاعلة ضمن الأطر الديمقراطية وينطبق الامر نفسه على النخب السياسية التي يقع على بعضها هذا الدور الإستراتيجي في بلد مازالت جراحه لم تندمل بعد من علل الديكتاتوريات ومن داء عضال اسمه الفساد المالي والاداري ..
إعلامي وكاتب عراقي
أقرأ ايضاً
- حادثة "كروكوس سيتي" أليست رسالة دولية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين"
- الحقيقة ليست في الصورة
- زينب أميره وليست أسيره