منذ بداية القرن العشرين وحتى الانتخابات العراقية الاخيرة ظلت السعودية تحت هاجس الخوف والريبة من بوابة العرب الشرقية واصبح هذا الخوف المحرك الرئيسي للسياسة الخارجية تجاه دولة الجوار. وان لم تتخلص السعودية من هذه العقدة لن تستطيع ان تتعامل مع العراق كما تتعامل مع الدول الاخرى وعلى اساس الاحترام المتبادل او المصالح المشتركة والتي هي اساس وطيد لأي علاقة دائمة وهادئة لا يشوبها الحذر والتوجس.
لقد بدأ الحذر السعودي من العراق اول ما بدأ في عهد الحكم الهاشمي الملكي حيث ظلت السعودية تنظر للعراق ومطامح قيادته حينها كمصدر للخطر اذ رأت في قيادته منافسة حادة وشرعية تنافسها على زعامة العالم العربي، وتحت المظلة البريطانية بقي الخوف دفينا حتى مرحلة تغير الحكم الملكي واستبداله في اواخر الخمسينات من القرن الماضي بالفترة الشيوعية، وان كانت السعودية لم تستحب القيادة الهاشمية الا انها وجدت في العراق الشيوعي مصدرا للقلق وان كانت اسبابه تختلف عن المرحلة السابقة، الا ان هذا القلق تجدد بسبب ايديولوجية العراق حينها وخطابه الثوري. وما ان بدل العراق قيادته الشيوعية بأخرى بعثية وجدت السعودية نفسها مضطرة لأن تتعامل مع العراق كحارس للبوابة الشرقية العربية وسخرت اموال النفط لتمويل البوابة في حرب بالوكالة ضد المد الثوري الايراني في الثمانينات، وان كان لهذه السياسة مبرراتها في ذلك الوقت الا انها افرزت نتائج عكسية ارتد خطرها على دول الخليج ومنها السعودية ذاتها، وبعدها تحول العراق من ترسانة العرب الى دولة ضعيفة انهكتها الحروب والعقوبات الدولية والتي اوصلتها للاحتلال ومن ثم تحولت الى ساحة مفتوحة تعبث بها الاطراف الدولية والاقليمية حتى هذه اللحظة. ووقفت السعودية تتفرج على تطورات الساحة العراقية غير قادرة على ان تحسم أمرها، والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو هل يشكل العراق ان كان قويا خطرا على السعودية ام ان عراقا ضعيفا مشتتا هو الافضل من منظور سعودي؟
لقد جربت السعودية ان تتعامل مع العراق القوي وكذلك جربته وهو ضعيف متفكك يمزقه العنف المتجدد وفي الحالتين بقيت البوابة الشرقية مصدرا للريبة والخطر. يختلف العراق بامكانياته وتركيبته الاجتماعية وموارده النفطية عن اي دولة عربية تتعامل معها السعودية بما فيها مصر وسورية، اذ ان العراق قوي بموارده النفطية والتي ان كتب لها ان تتطور وتنمو ستصبح مصدرا ينافس الاحتكار السعودي في المنطقة العربية، وربما سينتظر العراق لسنوات طويلة حتى يصل الى هذه المرحلة ويدخل السوق النفطية العالمية بعد ان يحدث قطاعه النفطي ليصل الى مرتبة عالية من الانتاج والتصدير تعكس مخزونه النفطي. وبالاضافة الى النفط يملك العراق طاقة بشرية هائلة وكوادر علمية متطورة ان سنحت لها الفرصة تستطيع ان تبني كيانا جديدا يعيد للعراق مكانته في محيطه العربي، لقد نمت هذه الطاقات العراقية البشرية خلال العقود السابقة وتحت ظل انظمة مختلفة واثبتت قدرة هائلة على استيعاب تقنيات عالمية ومعرفة عالية المستوى، الا انها تكبلت وتبعثرت نتيجة القمع والهجرات المتكررة ودليلنا على ذلك الوجود المكثف للأطباء العراقيين في بريطانيا مثلا حيث يشكل هؤلاء نسبة عالية من العاملين في المجال الطبي ومثلهم الكثير الذين يعملون في مجالات علمية مختلفة في مناطق متعددة من العالم.
تلاقي عاملي النفط والموارد البشرية ربما هما عاملان لم تستطع السعودية حتى اليوم ان توافق بينهما وتظل هذه الاخيرة تعتمد على العمالة الخارجية دون ان تتحرر من اعتمادها على التقنية المستوردة والقائمين عليها.
ومن هنا يبدو ان العراق القوي بنفطه وقدرته البشرية سيكون مثيرا للتوجس السعودي. اما في الحالة الثانية وهي العراق الضعيف المتشتت حيث يستقطب تيارات خارجية او محلية عربية تنهك المجتمع العراقي والدولة في قضايا الأمن والمتفجرات فهذا ايضا مصدر خطر كبير على الجارة السعودية ذات الحدود المشتركة مع العراق. عندها تصبح البوابة الشرقية ساحة مفتوحة تهدد الأمن السعودي الداخلي والعربي الاقليمي. ولن تستطيع السعودية ان تسده وتستريح لأن تداعياته ستطال المنطقة ولن تنفع معه الجدران الحدودية العالية او اجهزة الكشف المتقدمة والكاميرات اللاقطة للصور والحركة على الحدود. على السعودية ان لا تقتنع ان العراق الضعيف خير لها من عراق قوي متماسك.
هذه القناعة لن تصل اليها السعودية الا اذا تخلصت من عقدة العراق وخوفها من تطوره ونموه.
هذا الخوف صاحب الجذور التاريخية العميقة والمتأصلة في الشخصية السياسية السعودية يجعل السياسة الخارجية مشلولة وغير قادرة على التعاطي مع التغيرات الحاصلة على الساحة العراقية الا عن طريق تمويل انتخابات وتوزيع الاموال على شخصيات تعتقد السعودية انها ضمنت ولاءها. وربما تنجح هذه السياسة السعودية في مناطق كلبنان الا انها تتعثر في العراق وقد أثبت التاريخ صحة هذه الملاحظة وخير دليل على ذلك فترة الثمانينات التي انقلبت في التسعينات وتحولت الى كابوس حقيقي في المنطقة السعودية وجوارها. ربما تعتاش بعض القيادات العراقية على التمويل السعودي اليوم الا ان لها من الارث التربوي والتوجه الفكري ما يجعلها عصية على الاستقطاب حيث يصعب التنبؤ بتوجهاتها المستقبلية، فهي في نهاية المطاف منغمسة في مشروعها العراقي المحلي ولن تتحول بسهولة الى قيادات موالية لهذا او ذاك مهما ارتفع رصيدها السعودي المدعوم بكثافة حالياً.
في نهاية المطاف سيصل العراقيون الى قناعة تنبثق من ولائهم لوطنهم وحسهم بأمجادهم الذين لا يفوتون فرصة لتذكير العرب بها. هذا الحس سيبقى مهيمناً على العراقيين ولن يتخلصوا منه بالسهولة التي يتوقعها المتفرجون واصحاب الاسهم في الساحة العراقية، وسينصدم هؤلاء عندما يعود العراق ويقف على قدميه ليبرز من جديد على الساحة العربية الإقليمية.
وان كانت هذه الوقفة غير متوقعة في القريب العاجل الا انها فرضية لا يمكن استبعادها في المستقبل وعلى السعودية أن لا تخافها أو تقف في وجهها عندما تتحول الى حقيقة على الأرض. ورغم أن عقدة العراق هي أشبه ما تكون فوبيا سعودية الا ان التخلص منها ليس بالأمر المستحيل. على السعودية أن تدخل مع العراق في شراكة تضمن أمن المنطقة العربية وخاصة منطقة الخليج لأن من مصلحة البلدين أن يسود التفاهم ومنطق المصالح المشتركة بدل التوجس والمؤامرات الظاهرة والباطنة. قد تتباطأ السعودية في تجاوزها لمعضلة الفوبيا خاصة وأنها لا تزال تعتمد على مبدأ الحلول النفطية حيث تتحول الاموال الى مفاتيح كفيلة باستيعاب المخاطر مهما كانت، الا ان هذا المبدأ سلاح ذو حدين قد ينفع في المستقبل القريب الا ان تداعياته البعيدة قد يصعب التكهن بها او استيعابها.
هذا بالاضافة الى ان استنزاف النفط السعودي في مغامرات خارجية قد اثبت عقمه في الوصول الى حلول ثابتة تحفظ الأمن السعودي بعيداً عن مبدأ الآنية وقصر النظر. لقد اثبتت السياسة السعودية الخارجية أنها لا تنجح طالما ظلت رهينة البحث المستمر عن شخصيات معينة تدعمها بقوة في مناطق مختلفة من العالم العربي وتضع ثقلها النفطي خلفها. وهذا ما حصل مؤخراً في العراق. فمبدأ الزبونية قد ينجح في بعض الاحيان الا انه غير قادر على توطيد علاقات ثابتة ومستقيمة في المدى البعيد. تعتمد هذه العلاقات على تغير اسلوب التعامل مع الأزمات من مبدأ تنمية استراتيجية بعيدة عن الأهواء أو التعالي على الآخر، هذا التعالي الذي ولدته القوة الشرائية للنظام السعودي وقد تصطدم هذه القوة بمعطيات الساحة العراقية المحلية وتشعب انتماءاتها وتحول هذه الانتماءات بسرعة فائقة حسب التغيرات السياسية المتحركة في بلد لم يصل حتى هذه اللحظة الى منظومة مستقرة تضمن له الخروج من مأزق الاحتلال والذي كان وقعه على العالم العربي لا يضاهيه سوى نكبة فلسطين. لا بد للسعودية ان تقتنع ان الخطر الذي يشكله العراق الضعيف هو اكبر بكثير من العراق القوي الذي يجد موقعه الذي يستحقه في العالم العربي، اما العراق المنبوذ المنسلخ عن محيطه العربي فهو عراق يهدد أمن المنطقة بأكملها ويتحول الى بوابة من أبواب جهنم بدل ان يكون البوابة الشرقية التي تضمن توازناً حضارياً وعسكرياً واقتصادياً في المنطقة العربية.
' كاتبة واكاديمية من منطقة الجزيرة العربية ( ما يطلق عليها الان السعودية )
أقرأ ايضاً
- أهمية التعداد العام لمن هم داخل وخارج العراق
- ضرائب مقترحة تقلق العراقيين والتخوف من سرقة قرن أخرى
- الأطر القانونية لعمل الأجنبي في القانون العراقي