مازال البون شاسعا مابين واقعين متباينين في المستويين السياسي والديمقراطي نظريات / أدلجات/ قناعات / ممارسات/ لنموذجين احدهما ناضج ومتبلور وراسخ على جميع اصعده السياسية والسيوسولوجية وبناه التحتية الفلسفية والنقدية والمعرفية ومقوماته الاقتصادية منذ بزوغ عصر الأنوار ونشوء الدولة القومية وتفعيل دور الليبرالية والديمقراطية في نشوء الأمة /الدولة وترسيخ ثقافة المواطنة التي تفعلها آلية العقد الاجتماعي ومبادئ حقوق الإنسان، وبين واقع آخر مستجد ومستحدث وهش ومشوش وبعضه مازال في أطواره الجنينية البكر ولم يخرج بعد من إسار التشرنق التاريخي وفوضى التخبط التأسيسي وضمور الوعي المجتمعي النسبي بضرورة التحول السياسي السلمي بالارتكاز على مبدأ المواطنة المتمحور حول الهوية الوطنية الجامعة وآليات الديمقراطية التعددية فكرا وممارسة والتي تعني إن الشعب يتولى حكم نفسه وهو مصدر السلطات وتعني عملياً حكومة الأغلبية والمتجلية كتمظهر ممارساتي في العملية الانتخابية التي تترجم من خلال انساقها البرامجية الى واقع ملموس يمس بشكل مباشر حياة المواطن ومستقبل البلد فضلا عن المستقبل السياسي للسياسي نفسه ومستقبل حزبه او كتلته او جهته التي ينتمي اليها.
النموذج الاول يتمثل بالدول التي تنتمي الى العالم الليبرالي الحر والديمقراطي والمتقدم حضاريا وسياسيا والثاني يتجسد بدول العالم الثالث والدول التي ما تزال تحبو في هذا المضمار ولكن مع اي مستوى ممكن ان نضع النموذج السياسي والديمقراطي العراقي بحسب قراءاتنا النقدية للتجربة الديمقراطية العراقية في الانتخابات البرلمانية الاخيرة بغض النظر عن نتائجها (بلغة الارقام) فمن الممكن ان نستقرئ من ملاحظاتنا الأولية انه رغم الركام الهائل والتراكم الذي استمر عقودا طويلة من الاستبداد والمركزية الطاغية ورغم انعدام أية ممارسة ديمقراطية ماعدا صورها الكارتونية فإن الشعب العراقي قد خطا خطوات مهمة جدا بالإنعتاق من التوصيف العالمثالثي بالاتجاه نحو النضوج في الوعي الديمقراطي من جهة وفي الممارسة الديمقراطية من جهة أخرى .
المرشح للانتخابات والسياسي عموما من الناحية النظرية في الأقل يجب عليه ان يضع بالحسبان عدة اولويات للتخفيف من حدة الشخصنة وثقافة التحزب اولها المصلحة الوطنية العامة واستحقاقات المواطنة بموجب التعاقد الاجتماعي ومن ثم المصلحة الشخصية او الحزبية ومن الممكن المزج مابين تلك المصالح على اساس الوطنية من جهة والمصلحة الشخصية المشروعة كاختيار حر من جهة اخرى اي الخلط ما بين الحرص المزدوج على المصلحة الخاصة والمصلحة العامة في وقت واحد بعيدا عن أية ثقافة لاتنتمي الى ثقافة المواطنة والتمركز حول الهوية الوطنية الجامعة.. ولكن المشوار مازال طويلا للوصول الى النموذج الدولتي الحقيقي اللاهلامي نموذج الدولة / الأمة الذي يضع العراق في مستواه الطبيعي فائق الإستراتيجية ( جميع الإستراتيجيات) على كافة المستويات والمحاور ابتداء بالإقليمية وذلك بالابتعاد عن التماهي بثقافة التحزب والتطبع بإيديولوجية الحزب الواحد او الأحادي التي ترسخت في العراق بعد الطوفان الهائل من الايدلوجيات التي اكتسحت الشرق الأوسط والعالم الثالث ومنها العراق كـ (القومية والماركسية والاسلاموية والاشتراكية وغيرها والتي اتخذت بعضها طابعا دمويا) منذ منتصف القرن المنصرم وتطبعت بها المجتمعات سيما المجتمع العراقي منها فلم يكن هناك تصور ـ إلا ما ندر ـ حول عدم إمكانية التحزب او الالتفاف حول نواة حزبية معينة على الأقل فضلا عن التخندقات والاصطفافات الأخرى بحيث اصبحت ظاهرة \"المستقل\" أو اللاحزبي تحمل بصمات الاغتراب عن المشهد السياسي العراقي والتغريد خارج السرب وصارت ظاهرة تثير الشك والريبة وربما التخوين بحسب نظرية المؤامرة (إما ان تكون معنا او علينا) خاصة إبان العهد البعثي الفاشستي التوتاليتاري المظلم ومن ثم اصبحت هذه الظاهرة تحمل جينات اخرى لتوارث الفشل السياسي ان لم يكن الانتحار السياسي باعتبارها ظاهرة غير مألوفة أساسا خاصة اذا كان السياسي المستقل شخصية تكنوقراطية وذات كفاءة او نزاهة فالدولة (التي هي كيان سياسي و قانوني منظم يتمثل من مجموعة من الأفراد الذين يقيمون على ارض محددة و يخضعون لتنظيم سياسي و قانوني و اجتماعي تفرضه سلطة عليها تتمتع بحق استخدام القوة) هي مجرد شخص أو حزب أو عشيرة ورئيس الحكومة كذلك وربما الوزارة عندما يشغل الوزير الفلاني كرسي الوزارة لسنين طوال سواء عن طريق المحاصصة التوافقية أو عن الطرق الديكتاتورية وهي اسهل الطرق لشخصنة الدولة / السلطة/ الوزارة وترسيخ هذه الشخصنة في المخيال الجمعي الاجتماعي لتكون نواة سيكولوجية ـ سيوسولوجية تتجذر في اللاوعي الشعبوي وحتى النخبوي لا يلبث ان يكون جزءا من الموروث الثقافي والسياسي للمجتمع وتساهم الأحزاب (وهي الوسيلة الفعالة لتنظيم مشاركة الأفراد السياسة في الحكم بواسطة الانضمام إليها) بسياقاتها الفوضوية أي التي تكون بدون قانون منظم للعمل الحزبي وآلياته ومصادر تمويله ، في ترسيخ الشخصنة الحزبية أيضا ليستحيل الحزب بحسب كاريزمية قائده الى صورة مستنسخة من هذا القائد فتضمحل الايدولوجيا وتتحول الى مجرد شبح وإذا ما استولى هذا الحزب على مقاليد الأمور فسيبتلع الدولة بأكملها وفي أحسن الأحوال ستتشخصن الدولة بكاريزما هذا السياسي أو ذاك كأنها مجرد ظل للسياسي أو شبح مستعار ليظهر من خلاله السياسي على المشهد العام كحقيقة وحيدة مؤكدة، بدليل ان الكثير من العراقيين مازالوا يؤرخون لأحداثهم وتواريخهم وذكرياتهم ويسمون ابناءهم بحسب الأشخاص الذين تولوا حكم البلاد وليس بحسب الدولة التي عاشوا في كنفها وهذا تكمن الفجوة الواسعة مابين الدولة /الأمة المفترضة ومابين الدولة / السلطة التي عاش العراقيون مآزقها التأسيسية وتخبطاتها السياسية وكوارثها المأساوية لأكثر من ثمانية عقود من الجدب السياسي والقحط الاقتصادي والانعزال الحضاري والضمور المعرفي والنكوص العلمي ، وفجوة شاسعة أخرى مابين المجتمع المدني المغلوب على أمره والمجتمع السياسي المهمين على جميع مفاتيح السياسة والاقتصاد والتحكم الشمولي بجميع مراكز التفوق على مقدرات المجتمع والقدرة على التهميش والإقصاء لجميع الهويات لصالح هوية واحدة هي الهوية الحاكمة ذات أيديولوجية التحزب وشخصنة الدولة التي هي فلسفيا القيمة المطلقة للشخص فتختزل هذه القيمة المطلقة كل مفردات الدولة فيقال عراق الرئيس فلان وكأنه هو الدولة حسب نظرية التفويض الإلهي \"المعدلة\" وراثيا ولم نسمع يوما ما بريطانيا تاتشر أو فرنسا ديغول أو أمريكا ريغان، لكننا سمعنا ألمانيا هتلر وعراق صدام حسين ومصر عبد الناصر وهذا هو الفرق بين الدولة المشخصنة قسريا من خلال نموذج كاريزمي يكون في اغلب الأحيان نموذجا ديكتاتوريا تسلطيا والمؤدلجة حزبيا حد التماهي، وبين الدولة الليبرالية والديمقراطية المتحضرة والتي يكون التشخصن للقانون والمؤسسات الدستورية المنتجة للدولة / الأمة وهذه بدورها خارطة الطريق التي ترسم طريق المستقبل للعراق بالاتجاه نحو النماذج الديمقراطية الناجحة ونرى إن الشعب العراقي الذي قدم التضحيات الجسام لقادر على تخطي تخوم العالمثالثية والتخلف السياسي والديمقراطي المدقع نحو مستوى ديمقراطي يضاهي ما هي عليه الدول الديمقراطية الناجحة بالابتعاد عن ثقافة التحزب التي تشبه الولاء القبلي في بعض الأحيان، وعن شخصنة الدولة ومؤسساتها الى درجة التأليه لكي لا ينتج لدينا بالتدريج طاغوت آخر وتصير الدولة كلها الحديقة الخلفية للقصر الجمهوري وترجع ارض السواد بستانا للعشيرة التي تتحول بدورها الى الأسرة \"المالكة\" وتضيع على العراق فرص تاريخية أخرى ويدخل نفقا آخر !!.
إعلامي وكاتب عراقي [email protected]
أقرأ ايضاً
- الإجازات القرآنية ثقافة أم إلزام؟
- الوعي الصحي.. ثقافة مجتمع
- لماذا أدعو إلى إصلاح التعليم العالي؟ ..اصلاح التعليم العالي الطريق السليم لاصلاح الدولة