من المؤشرات الاساسية التي تدل على رقي أمة ما، هو سيادة اجواء اللاعنف في أنشطتها كافة، حيث الحوار المتحضر يتدخل في الغالب ليضع الحلول الملائمة للتقاطعات التي قد تحدث بين الآراء والافكار والاعمال معا.
ولعل هذا الامر يحتاج الى نشر وتطوير وترسيخ بين افراد المجتمع او الشعب، لكي يصبح سلوكا قائما بذاته، ضمن منظومة السلوك العامة لذلك المجتمع.
ولكن نتساءل قبل ذلك:
ما هي حدود سلطة الكلام وهل بإمكان الكلمة أن تتجاوز في قدراتها وإمكانياتها غير المادية سلطة السلاح وقدرته علي التهديد والقتل والدمار؟.
إنها أسئلة قابلة للطرح، فالمحيط الذي اعتاد التعصب والتمسك برأيه والغاء الآراء الاخرى، ليس من السهل ان يتحول الى محيط حاضن لجميع الآراء، ومع ذلك تبقى محاولات التطوير قائمة، وتبقى اهمية تفعيل سلطة الكلام لترسيخ ثقافة القبول والتسامح واللاعنف قائمة ايضا.
منذ ان وعى الإنسان قدرات الكلام منذ زمن سحيق، كان الفكر والقول بكل أجناسه وما زال أحد أهم الركائز التي تسند الإنسان في مسيرته الحياتية وهو يغذ الخطى نحو عالم أكثر حرية وأمنا وإنسانية، فلقد دأب المصلحون والمفكرون والمثقفون عامة على رسم الخرائط الفكرية التي تليق بإنسانية الإنسان على مدى التأريخ وخططوا لها وأشبعوها بحثا وتصميما شكليا وجوهريا بما يتناسب وسمو النفس البشرية وطموحاتها التي تمضي قُدُما.
وثمة تساؤل يجدر بنا طرحه على أنفسنا وعلى غيرنا ونحن نمر الآن عبر مضيق سياسي يمتلئ بالمتناقضات وأكثرها وضوحا ظاهرة مستجدة على الواقعين العراقي والعربي وربما الاقليمي أيضا، ألا وهي ملاحقة المفكرين وتضييق الخناق عليهم كما حدث في حالات عديدة، ترى لماذا تُستهدف العقول الخلاقة؟ وهي تحث الخطى لترسيخ ثقافة القبول بالآخر وإشاعة مبدأ اللاعنف، ونشر روحية الشورى والحوار وتسليط الضوء على الحقائق القائمة.
وقبل ان نبحث عن المستفيد من ملاحقة مثل هذه العقول، نقول ان الفكر الخلاق لا يلتقي مع القتل المجاني بكل أنماطه المعلنة والمبطنة لسبب واضح هو تقاطع الجانبين في الوسيلة والهدف، وعندما نعود ونسأل من المستفيد من تضييق الخناق على اصحاب الكلمة الحرة، سوف لا يتردد أحد لحظة واحدة بالقول ان أعداء الإنسان هم المستفيدون من ممارسة هذه الظاهرة ويتفق الجميع (علماء، مفكرون، وبسطاء من عامة الناس) على ان ظاهرة التحجيم والتكميم ما هي إلاّ ظاهرة مستهجنة من لدن الجميع.
وما دام الامر كذلك، فما هي السبل والوسائل القادرة على ترسيخ مبدأ اللاعنف في المجتمع؟ إنه سؤال سيظل قائما طالما كانت الحاجة قائمة إليه، فلقد نشأت حالة الصراع مع نشأة الانسان وظهوره على سطح الارض، وقد مر عبر رحلته الطويلة في الحياة بمراحل متعددة وقاسية بدأت في تحويله من مخلوق نشأ مع الوحوش وعاش بينهم واخذ منهم كثيرا من عاداتهم السلوكية، الى انسان بدأت الاديان تشذب اخلاقه وافعاله ليكون اكثر رحمة وتسامحا مع الآخرين، ناهيك عن الخطوات الفكرية الكبرى التي جهدت على مدى التأريخ كي تحد من نزعة الفردية والتضخم الذاتي واقصاء الآخرين وتهميشهم لدرجة القتل اذا تطلب الأمر.
لقد ارتبطت ظاهرة الحوار واللاعنف بالامم الراقية وشاعت في اوساطها، ومع انها لم تحقق هدفها هذا بين ليلة وضحاها، إلاّ انها سعت الى ذلك ووصلت الى ما تبغي إليه من رقي وتطور في المعرفة والسلوك وغيرهما.
لهذا نعتقد ان تنمية فكرة اللاعنف ينبغي ان تقع في اولويات مهام المفكرين والمصلحين وغيرهم، ليس لأنها كلام منمق وجميل، بل لكونها جوهرا عظيما فيما لو تحولت من حقل الكلام الى ميدان التطبيق، غير اننا يجب أن نقر بأن الامر ليس من السهولة بحيث نصل اليه في جهود ضيقة او محدودة، ذلك لأن المسألة تتعلق بخلق منظومة سلوك تعم جميع شرائح المجتمع قائمة على مبادئ القبول والحوار والتسامح وما شابه، ولعل هذا لايتحقق بغير التعاضد الشامل بين جميع المصلحين والمفكرين والمحيط الاجتماعي معا للوصول الى ترسيخ هذه الثقافة المتحضرة والراقية.
أقرأ ايضاً
- سلطة المشرع في إصدار النص القانوني المقضي بعدم دستوريته مجدداً
- الغدير بين منهج توحيد الكلمة وبين المنهج الصهيوني لتفريق الكلمة
- أزمة منصب رئيس السلطة التشريعية في بوصلة المرجعية