- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
التكفير ... ثغرة فقهية أم شذوذ أخلاقي؟!!
بقيت كل الانشقاقات العمودية والأفقية والتشققات والجدالات والمنازعات والاختلافات والاحتدامات قيد البحث والدرس الفقهي والأصولي حتى مع بروز بوادر أول حرب اهلية بين المسلمين بين فئتين (حرب الجمل سنة 36هـ) يمثل أولاها الإمام والخليفة الشرعي علي بن أبي طالب (ت40هـ) وثانيتهما فئة اجتهدت فلم تنل مرادها ولم تكن هذه الحرب سوى تنفيس لمكبوتات ظلت جاثمة على الصدور بعد مؤتمر السقيفة وما حدث بعده من انشقاقات وانشطارات ما تزال أشباحها قائمة حتى اليوم ، كانت من جملتها معركة صفين ( سنة37هـ) التي رسخت الانشقاق الأول وأضافت نتيجة مأساوية أخرى لمعركة الجمل التي سبقتها بفترة قصيرة الى ان جاءت واقعة الطف (سنة 61هـ) التي كان احد طرفيها ابن بنت الرسول لتضع الإسفين المؤسس لما يأتي من انعطافات بلغت حدة انشقاقيتها حد الإبادة ضد هذا او ذاك وصار القتال بين المسلمين من الأمور التي لا تثير حفيظة احد رغم صراحة النصوص القرآنية الدالة على صون النفس المحترمة وبشكل عام بين الناس وليس فقط بين المسلمين (مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي ٱلأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) كما دلت على حرمة المسلم المؤمن (ومن قتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها ) فكان التأكيد القرآني على حرمة النفس الإنسانية مرتين الأولى ضمن الإطار الإنساني العام والثانية ضمن الإطار الإسلامي الخاص ولا مناص ولا فكاك عن هذين التأكيدين وكأنهما حجتان دامغتان على قضية واحدة فضلا عن ما لا يحصى من التأكيدات التي وردت في المضمون ذاته في السنة النبوية الشريفة ..
الشروخ الأولى لم تستدع ِ حضور اتجاهات تكفيرية او مكفرة رغم حمامات الدم التي بلغت في بعض الأحيان حد الركاب إلا حين برزت في القرن الرابع الهجري نزعة أصولية سلفية تكفيرية حادة تختلف عن الاتجاه الأصولي السلطوي او النخبوي وحتى المستوى الجماهيري واتخذت هذه النزعة في بادئ الأمر اتجاها نحو تقديس السلف \"الصالح\" والاقتداء به في كل شيء ونبذ بقية الاتجاهات لكنها اتخذت منحىً آخر أكثر تطورا وخطورة فقهيا ومعرفيا بالانحدار الى إلغاء الآخرين وتكفيرهم كلية ً (حتى الاتجاهات المتقاربة) وإخراجهم من حظيرة الأمة الاسلامية وإهدار دمائهم وأعراضهم واستباحة وجودهم في حين إن هذه النزعة تحفظ في الوقت نفسه لأهل الذمة حقوقهم التي كفلها الإسلام لهم فكان اتجاه التكفير لدى هذه النزعة اتجاها نوعيا داخليا وهو اتجاه غريب عن الواقع الإسلامي منهجا وشريعة وسنة وأيديولوجية يمثل ثغرة \"فقهية\" بعيدة كل البعد عن المنهج الفقهي الإسلامي السمح والبعيد كل البعد ايضا عن الأخلاق الإسلامية الرفيعة ..
إن التكفير يمثل سقوطا إيديولوجيا ومعرفيا كونه يتوجه نحو إلغاء الآخر وإقصائه دون الانفتاح الثقافي على الآخرين ومعرفة آرائهم والتفاعل المقارن معها والتشارك معهم في استقصاء الحقيقة من منابعها وأصولها وجذورها سيما إذا كانت المنطلقات الفكرية هي نفسها للجميع (كتاب الله وسنة نبيه) ويتجلى هذا السقوط في محاولة احتكار \"الحقيقة\" والاستحواذ على كل المنطلقات وحرمان الآخرين منها بحجة أنهم على باطل أو كفار جملة وتفصيلا دون تمحيص وتدقيق كأن الحقيقة مطلقة وهي تخصهم وحدهم ..كما يعد التكفير سقوطا أخلاقيا وإنسانيا بالمرة كونه يعطي الضوء الأخضر لاستباحة كينونة ووجود ودم وعرض ومال المكفر (بفتح الفاء) وتوجها غير عقلاني وشاذ وغريب عن جميع القواعد الأخلاقية التي تحكم بني البشر سماوية كانت أم وضعية.
ان خطورة هذا الاتجاه لا تتمثل فقط في غرائبيته العقائدية وشذوذه الأخلاقي وإنما في خروجه من إطاره الفقهي والأصولي الى إطار أخر أكثر جدية وخطورة من التجاذبات الفقهية والمماحكات الاصولية البحتة بولوجه عالم السياسة بتسييس التكفير وجعله مذهبا معتمدا لدى \"الدولة\" فيكون له وجهان الاول هو الوجه المذهبي الطائفي والوجه الثاني الوجه السياسي المتطيف والذي يأخذ على عاتقه التبشير بهذا الاتجاه بالأساليب الدولتية المتاحة يضاف اليها الأدوات التي تمتلكها الدولة الراعية والحاضنة لهذا الاتجاه مثل وسائل الإعلام ودور النشر والأجهزة المخابراتية والعسكرية وما الى ذلك بتسييس التكفير وعسكرته وادلجته والتبشير به بقوة السيف وإسراف المال يضاف الى ذلك وسائل الترغيب والترهيب والإقناع وغسيل الأدمغة بحشوها بالأفكار الهدامة التي تفرق بين المسلمين وتجعل بعضهم أنداد بعض ويضرب بعضهم رقاب بعض من خلال التكفير المزدوج او التكفير أحادي الجانب باعتبار ان ليس كل المسلمين مكفرين (بكسر الفاء) وإنما هنالك جهة محددة هي التي تكفر الآخرين دون وجود رد فعل مكافئ لفعل التكفير سوى الردود التي تنم عن الامتعاض والألم وفي بعض الأحيان يكون السكوت من ذهب لكون الكلام لا ينفع مع من يهدر دماء الآخرين وأعراضهم ولهذا السبب تكون ردود الأفعال أحيانا عاطفية وحماسية وغير مصطبغة بالعلمية المنهجية القائمة على إيراد الحجة الدامغة والملقمة الطرف الآخر حجرا يسكته وسرعان ما تخفت ردود الأفعال وتخمد الأصوات التي تنادي بتغيير هذا المسار الخاطئ..
وتأتي الفتاوى التكفيرية الصادرة عن هذا الاتجاه لتكمل الفصل الأكثر تراجيدية ضمن الفصول الأخرى من هذا \"المنهج\" غريب الأطوار ، ولتكمل مشوار التبشير المعمد بدماء الأبرياء الذين لا ذنب لهم سوى أنهم مختلفون مذهبيا رغم أنهم متشاركون في اغلب الأصول والفروع ومتداخلون عقائديا مع الجميع ضمن الإطار العام الجامع للأمة الإسلامية الذي يسع الجميع رغم الفوارق والاختلافات وهذا شيء غير خارج عن مألوف جميع الأديان...وتلك الفتاوى لا تساهم في ترسيخ الانشقاقات المذهبية المتوارثة عبر العصور فحسب وإنما تعطي الضوء الأخضر للعناصر المحسوبة على هذا الاتجاه بالقيام بأعمال إرهابية وحشية ضد الأبرياء والعزل سيما من المدنيين بحجج \"شرعية\" يوفرها لهم أمراء التكفير و شيوخهم خاصة اذا كانت صادرة ممن يفترض ومن موقعه الرفيع والحساس ان يكون مثالا في التسامح وإشاعة الوحدة بين المسلمين لكن \"فضيلة\" الشيخ عادل الكلباني إمام وخطيب الحرم المكي الشريف أبى إلا ان \"يغرد\" خارج السرب بتكفيره فرقة إسلامية مهمة فضلا عن علمائهم ومشايخهم دون الاستناد الى أي مبرر شرعي او فقهي او أصولي او عقائدي او فلسفي او حتى أخلاقي ما يوحي بوجود اكثر من خلل مزدوج واكثر من ثغرة بنيوية فقهيا واخلاقيا .....
عباس عبد الرزاق الصباغ
اعلامي وكاتب
أقرأ ايضاً
- الرزق الحلال... آثاره بركاته خيراته
- الانتخابات الأمريكية البورصة الدولية التي تنتظر حبرها الاعظم
- التكتيكات الإيرانيّة تُربِك منظومة الدفاعات الصهيو-أميركيّة