يبدو، وأنا البدويّ الذي ركبتُ الحميرَ واقتسمتُ وإيّاها البرسيمَ، أنّ الحمارَ من الكائنات التي لم تتمكّن بعدُ من تحقيق استقلالِها الوطنيِّ ومن إعادة الهيبةِ لشخصيتِها الحيوانيّة ومن الخروج من عهدِ الوصاية الاستعماريّة المفروضة منذ حروب نابليون على منطقة الشرق رغم مجيء أوباما.
الحميرُ، وهي الوحيدة القادرة على النَّهيقِ الصَّريحِ، تختزن ذاكرةً قوميّةً مخصوصةً بها مليئةً بتراثِها الشهوانيِّ وبتاريخِها السياسيّ الذي ابتدأ ولم ينتهِ مع ثورة صاحب الحمارِ. والحمير، في بعضِ تعريفاتِها، كائناتٌ تُحبُّ ولا تكرهُ. هي ذواتِ أربعٍ وأحيانًا تكون ذوات خمسٍ وفقَ حاجاتِها الطبيعيّةِ في الأرضِ. وهي تُجيدُ الصّبرَ والصمتَ والإذعانَ وتحمّلَ المشاقِّ. ولها ألوان عديدةٌ منها الأبيض الذي يطغى على حمير المشرق العربيِّ \"في الصعيد المصريّ\" ومنها الأسود الذي تتزيّا به حمير إفريقيا. وهناك حميرٌ توصفُ ظُلْمًا بالوحشيّة وهي ناعمةُ الحُلْمِ. وتتكوّن العائلةُ من الحمير من البرذَوْنِ أو الجحشِ والأتَانِ وزوجِها الحمارِ.
لا يمكنُ لأيّ واحدٍ منّا أن يجهرَ بأنّه مع تحريرِ الحمير، فتلكَ مسألةٌ قد تضع صاحبَها في خانةٍ سياسيّةٍ تُكلِّفُه حرّيتَه الشخصيّةَ، ولكنّ الممكنَ هو القولُ إنّ الحميرَ كانتْ تملأ خيالَ بني آدمَ حتى صارَ لكلِّ مواطِنٍ عربيٍّ حمارٌ يركَبُه ويحملُ عليه أتعابَه ويقطعُ به مسافاتِ بداوتِه نحو الحضارةِ المَدينيّةِ. لا بل إنّ الحميرَ أثارت شهيّة المبدعين فكتب توفيق الحكيم عن حماره وتفنّنَ المخيال القوميُّ، في شخصِ جُحا، في توصيفِ الأحمرةِ وذكائِها. ونكاد نجزمُ أنّ بعضَ بني آدم، مِمَّنْ يتوفَّرون على صدقٍ في العلاقاتِ التي تربطهم بباقي مخلوقاتِ اللهِ، يحنّون إلى عهدِ الحميرِ السعيدِ في زمن \"فيراري\" و\"ليموزين\" و\"المرسيدس\" حنينَهم إلى الجنّةِ.
وقد انتبهت بعضُ القبائلِ العربيّة إلى الاضطهاد السياسيّ الذي تُمارِسُه القوى العالميةُ العظمى ضدَّ الحمير، ومن بابِ تضامن هذه القبائلِ مع الحميرِ وشجبِ العدوانِ عليها والتنديدِ بما تلاقيه من سوءِ معاملةٍ دوليّة، سنّتْ قوانينَ خاصّة بالحمير تُبيحُ لها السيرَ دون الالتزامِ بقوانين المرور والخروجِ في مظاهراتٍ عارمة حتى في أوقاتِ الطوارئِ، لا بل أفردتْ كلَّ حمارٍ بمواطِنٍ صالحٍ يرعى شؤونَه السياسيّةَ والعاطفيّةَ والماليّة في شكلِ مديرِ أعمالٍ على غرارِ ما نجد عند الفنّانينَ الجُدُدِ والفنّاناتِ الجديداتِ ولاعبي الكرة. وهو أمرٌ نرى فيه سَبْقًا من تلك القبائل العربية إلى التأسيسِ لحقوقِ الحميرِ في شيءٍ من التمهيد للمطالبةِ بتكوين جامعةٍ عربية لها وتمكين بعضها من تأسيسِ أحزابٍ سياسيّةٍ تدعو إلى الانفتاح على الآخر وإلى التسامح والعدل والمساواة بين المخلوقاتِ.
عبدالدايم السلامي
كاتب عربي