ثقافة التسامح تأتي قبل، ثقافة الحوار وربما هذه الاخيرة اهم من الاولى، او هي الركيزة والدعامة التي ترتكز عليها مبادىء التسامح، حتى تنتشر في المعمورة ليعم الخير والسلام جميع الناس. فثقافة الحوار مطلوبة في كل عصر ولاسيما في عصرنا هذا، الذي كثر فيه القتل والاعتداء، وانتشر فيه العنف بكل اشكاله وصنوفه حتى هدرت فيه كرامة الانسان، ولم تبق له من حقوق. فالحوار يجب ان يكون هو الفصل والفيصل. وهناك شروط يجب ان يتبعها المحاورون، حتى تتحقق مبادىء الحوار وتأتي أكلها، ويصل المحاور الى الهدف او الغاية، التي سعى او يسعى اليها. وان من اهم شروط الحوار ان يكون عقلانياً مبنياً على مبادىء الفلسفة والاخلاق، بعيداً عن الشتيمة، والاستهزاء بالآخر، وعدم النظر اليه شزراً، او الرمق اليه بحقد وضغينة، وانانية تنم عن عدواة مقيتة. واذا حدث مثل هذا، فلا يسمى حواراً بقدر مايسمى معركة كلامية، هدفها التشفي والانتقام، وعدم الاعتراف بالآخر. وحوار من هذا النوع لايبني ثقافة متكاملة، قائمة على المبادىء السامية وحقوق الانسان، والاولى ان لايحدث مثل هذا الحوار، لانه يهدم اكثر مما يبني، ويخرب اكثر مما يعمر. ان الحوار ليس عيباً ولا منقصة، لاسيما اذا كان قائماً على العقل والمنطق، ومبتعداً عن الجدل، الا بالتي هي احسن، كما يعبر القرآن الكريم. وان الله سبحانه وهو رب الارباب ومسبب الاسباب، حاور ابليس وكان ابليس معانداً ويحب الجدل والمراوغة، وعدم الانصياع الى الحق. وفي نهاية الحوار طلب ابليس من الله تعالى، ان ينظره، اي لايستعجل عقوبته، وقد لبى الله طلبه واعطاه مايريد. الله تعالى في هذا الحوار مع ابليس اراد منا، ان نحاور الخصم ولا نحكم عليه جزافاً واصدار معاقبته، بدون ترو وقليل من الصبر، بل لابد من الحوار والمناقشة الشفافة، والاستماع الى حجة المقابل وادعاءاته التي يدعي، ومن ثم تنفيذها، بحجج وبراهين دامغة، لايتسرب اليها الشك والريبة. فلو جاءنا احد وقال انه نبي مرسل، فنقول له: ماهي معجزتك، لان الانبياء يأتون بالاعجاز كي تصدقهم الناس، فمثلاً عيسى بن مريم (ع) كانت معجزته شفاء الاكمه والابرص، وقد بعث في عصر تغلب فيه الطب، اما موسى (ع) فقد جاء باليد البيضاء والحية التي تلتهم حبال السحرة وعصيهم، التي خيلت للناس بانها تسعى، وذلك في عصر تغلب فيه السحر والشعوذة، اما معجزة نبينا محمد (ص) فهي مجيئه بالقرآن، وقد جاء ذلك في عصر تغلب فيه الشعر والخطابة والبلاغة، حتى حيرت اهل الشعر والخطابة، بلاغة القرآن وحسن ترتيبه، وقد تحداهم بان يعارضوه او ان يأتوا بسورة او بآية مثله، فعجز اهل الخطابة والبلاغة واصابهم الاعياء، وهم هم، فقال ذو الخبرة والعقل منهم، ان لفيه حلاوة وعليه طلاوة، فآمن من آمن عن بينة وضل من ضل عن بينة. ونقول لمدعي النبوة ان الرسول (ص) قال (لانبي من بعدي). فنبطل بذلك ادعاء هذا المدعي ونفند حجته.يجب ان نحاور الآخر بهدوء، لاان نواجهه بالسلاح قبل الاستماع الى قوله والنظر في حجته، فان ذلك يناقض مبادىء الحوار ويبطل دور العقل، لاسيما ان سلاح العقل اعظم من اي سلاح، وكثيراً ماينتصر سلاح الفكر على بقية الاسلحة. فكم من نظرية فلسفية واخرى اقتصادية وثالثة علمية قد نسفتها نظرية اخرى واظهرت زيفها ودعواها. لكن النظرية الصحيحة والفلسفة المعقولة تبقى قائمة وتسير الناس على وفق مدلولها، حتى وان مات صاحب تلك النظرة وبليت عظامه. فالذي لايحاور ويحكم على خصمه بالموت قبل الاستماع الى رأيه، والنظر في حجته، لايكون الا جاهلاً عنيداً لايمتلك ادوات العلم ولاقرطاس الحوار، وان الافكار التي يحملها ماهي الا خزعبلات وانساق كلامية اقرب الى الجهل منها الى العلم. فلقد قامت الحضارات وبنيت الفلسفات، على خارطة الحوار والاستماع الى الرأي والرأي الآخر. وماهذا الدمار والخراب الذي يشهده العالم، الا نقصان في ثقافة الحوار، فلو كان هناك حوار بين دين ودين آخر، وفكر وفكر آخر، ونظرية ونظرية اخرى، لما وصل العالم الى ماوصل اليه، وماكانت هناك سجــالات، ووصل الانسـان الى اكتشافات علمية عظيمة تصب في خدمته، ليعمر الارض ومن عليها. فانسان اليوم شغل نفسه بالحروب والانتقام من الآخر، وكيفية القضاء والانتصار عليه، حتى اريقت دماء وزهقت انفس وانتهكت اعراض.