RSS
2025-12-21 09:00:26

ابحث في الموقع

اللغة العربية في مواجهة العولمة.. معركة البقاء اللغوي

اللغة العربية في مواجهة العولمة.. معركة البقاء اللغوي
اللغة العربية في مواجهة العولمة.. معركة البقاء اللغوي
بقلم: د. عصام البرّام

تعيش اللغة العربية اليوم واحدة من أكثر مراحلها التاريخية حساسية وتعقيدًا، إذ تواجه عالَمًا يتسارع فيه التداخل الثقافي والاقتصادي والتقني على نحو غير مسبوق. ولم تعد التحديات التي تواجه العربية محصورة في الداخل العربي، بل أصبحت جزءًا من منظومة عالمية تُعرف بالعولمة، وهي منظومة لا تفرض أنماطها على الاقتصاد والسياسة فقط، بل تمتد بعمق إلى اللغة بوصفها أداة التفكير والهوية والتواصل. وفي خضم هذا الواقع، تبدو العربية وكأنها تخوض معركة بقاء لغوي، لا بالسلاح، بل بالقدرة على الصمود والتكيّف وإعادة تعريف دورها في عالم لا يعترف إلا باللغات القادرة على مواكبة التحولات الكبرى.

لم تكن العربية يومًا لغة منعزلة عن العالم، بل كانت على الدوام لغة منفتحة تستوعب المؤثرات الخارجية وتعيد صهرها في بنيتها الخاصة. فقد عرفت في مراحل تاريخية سابقة احتكاكات واسعة بلغات أخرى، كالفارسية واليونانية والسريانية، واستطاعت أن تستوعب مصطلحاتها دون أن تفقد هويتها أو بنيتها الجوهرية. غير أن ما يميّز العولمة الحديثة عن تلك المراحل هو سرعتها الهائلة، واتساع رقعتها، وقدرتها على فرض أنماط ثقافية موحّدة، تجعل من بعض اللغات مركزًا عالميًا للإنتاج المعرفي، فيما تدفع لغات أخرى إلى الهامش.

في قلب هذه المنظومة العولمية، تحتل اللغة الإنجليزية موقعًا مهيمنًا، ليس لأنها الأجمل أو الأغنى، بل لأنها اللغة التي رافقت صعود القوة الاقتصادية والتقنية في العالم الغربي. ومع تحوّل التكنولوجيا الرقمية إلى العمود الفقري للحياة المعاصرة، أصبحت الإنجليزية لغة البرمجيات، والبحث العلمي، والاقتصاد العالمي، ومواقع التواصل، والمحتوى الرقمي. وفي المقابل، وجدت العربية نفسها أمام واقع جديد يضعف من حضورها في المجالات الحيوية، خصوصًا تلك التي تحدد مسار المستقبل، مثل الذكاء الاصطناعي والعلوم التطبيقية والاقتصاد المعرفي.

وقد انعكس هذا الواقع العولمي على المجتمعات العربية بشكل واضح. فانتشرت المدارس الأجنبية، وتزايد الاعتماد على اللغات الأجنبية في التعليم العالي، وتحوّل كثير من المؤسسات الإعلامية إلى استخدام لغات أو لهجات بعيدة عن الفصحى، بحجة مواكبة العصر وجذب الجمهور. ومع مرور الوقت، بدأ الشعور يتسلل إلى الأذهان بأن العربية لم تعد لغة العصر، وأن استخدامها قد يحدّ من فرص الفرد في سوق العمل العالمي. وهنا تبدأ المعركة الحقيقية، لأن اللغة التي يُنظر إليها على أنها عبء تصبح مهددة في وجودها، مهما كان تاريخها عريقًا.

غير أن العولمة لا تعمل فقط على تهميش اللغات، بل تعمل أيضًا على إعادة تشكيلها. ففي ظل الانفتاح الواسع، بدأت العربية تشهد تدفقًا كثيفًا للمفردات الأجنبية، بعضها جاء نتيجة الحاجة إلى تسمية مفاهيم حديثة، وبعضها جاء نتيجة التقليد اللغوي غير الواعي. وظهر ما يمكن تسميته بلغة هجينة، تمزج بين العربية واللغات الأجنبية، خاصة الإنجليزية، في الحياة اليومية والإعلانات ووسائل التواصل الاجتماعي. وهذه الظاهرة، وإن كانت طبيعية إلى حد ما في مسار تطور اللغات، فإنها تصبح خطيرة حين تتحول إلى بديل عن اللغة الأصلية، لا إضافة إليها.

وفي هذا السياق، يبرز سؤال بالغ الأهمية: هل التحدي الذي تواجهه العربية اليوم نابع من قوة العولمة وحدها، أم من ضعف الاستجابة العربية لها؟ الواقع أن العولمة ليست قوة عمياء، بل منظومة تستجيب للفاعلين فيها. واللغات التي نجحت في الحفاظ على مكانتها لم تفعل ذلك بالانغلاق، بل بالاستثمار في التعليم والبحث والإنتاج الثقافي والتقني. واللغة التي لا تُنتج معرفة ولا تُستخدم في العلوم الحديثة، تصبح مع الزمن لغة تراثية محصورة في الطقوس والمناسبات.

العربية تمتلك كل المقومات التي تؤهلها للصمود في وجه العولمة، لكنها تعاني من أزمة إدارة لغوية أكثر مما تعاني من أزمة وجود. فهي لغة ذات نظام اشتقاقي فريد، وقدرة عالية على توليد المصطلحات، ومرونة تسمح لها باستيعاب المفاهيم الجديدة. لكن المشكلة تكمن في غياب مشاريع تعريب منهجية قادرة على مواكبة سرعة الإنتاج العلمي العالمي، وفي ضعف التنسيق بين المؤسسات التعليمية والثقافية والإعلامية، وفي تراجع الاستثمار في البحث اللغوي. فالعولمة لا تنتظر أحدًا، واللغة التي لا تتحرك بسرعة تُترك خلف الركب.

كما أن الإعلام يلعب دورًا محوريًا في هذه المعركة. فالإعلام هو الواجهة اليومية للغة، وهو الذي يحدد الذائقة اللغوية العامة. وحين يبتعد الإعلام عن الفصحى بحجة التبسيط، فإنه يسهم من حيث لا يدري في إضعاف حضورها. وحين تُقدَّم العربية في الإعلام بصورة جامدة أو نخبوية، فإنها تفقد جاذبيتها لدى الأجيال الجديدة. لذلك فإن معركة البقاء اللغوي لا تُخاض فقط في قاعات الجامعات أو مراكز البحث، بل في الشاشات والهواتف والمنصات الرقمية التي تشكل وعي الجيل المعاصر.

ولا يمكن إغفال دور التعليم في هذه المواجهة. فالمناهج التي تفصل اللغة عن الحياة، وتقدّمها بوصفها مادة قواعدية جامدة، لا تصنع متحدثين واثقين بلغتهم. بل تخلق نفورًا تدريجيًا منها. وفي عالم العولمة، حيث تُقدَّم اللغات الأجنبية بوصفها مفاتيح للنجاح، يصبح تعليم العربية مسؤولية ثقافية قبل أن يكون مسؤولية لغوية. فإعادة الاعتبار للعربية في التعليم تعني تقديمها كلغة تفكير وإبداع وعلم، لا كلغة امتحان وحفظ.

ورغم قتامة بعض جوانب المشهد، فإن العولمة نفسها تحمل فرصًا حقيقية للعربية إذا أُحسن استثمارها. فالفضاء الرقمي يتيح للعربية أن تتجاوز الحدود الجغرافية، وأن تصل إلى ملايين المتحدثين والمهتمين حول العالم. كما أن أدوات الذكاء الاصطناعي تفتح آفاقًا جديدة لتطوير المحتوى العربي، وتعليم اللغة، وتحليل النصوص، وإحياء التراث. والعولمة الثقافية، على الرغم من هيمنة بعض اللغات، تسمح أيضًا بظهور أصوات ثقافية بديلة قادرة على المنافسة إذا امتلكت الأدوات اللازمة.

كما أن العربية تتمتع بميزة فريدة لا تملكها كثير من اللغات، وهي ارتباطها الوثيق بالقرآن الكريم وبالتراث الديني والفكري لمئات الملايين من البشر. وهذا الارتباط يمنحها عمقًا رمزيًا وروحيًا يجعلها عصيّة على الاندثار الكامل. غير أن الاعتماد على هذا البعد وحده لا يكفي. فاللغة التي تعيش على قدسيتها فقط، دون حضور عملي في الحياة المعاصرة، تتحول إلى لغة شعائر لا لغة مجتمع. ومن هنا تأتي ضرورة الجمع بين البعد الهويّاتي والبعد الوظيفي للعربية.

إن معركة البقاء اللغوي التي تخوضها العربية اليوم ليست معركة ضد العولمة بحد ذاتها، بل معركة من أجل موقع فاعل داخلها. فالانغلاق ورفض العالم ليس حلًا، كما أن الذوبان الكامل في لغات أخرى ليس خيارًا واعيًا. المطلوب هو بناء استراتيجية لغوية متوازنة، تعترف بضرورة الانفتاح على اللغات العالمية، دون أن يكون ذلك على حساب اللغة الأم. فالازدواجية اللغوية يمكن أن تكون مصدر قوة إذا أُديرت بوعي، لا مصدر ضعف إذا تُركت للفوضى.

وفي نهاية المطاف، فإن بقاء العربية في عصر العولمة ليس مسألة لغوية فحسب، بل مسألة حضارية. فاللغة التي تفقد مكانتها تفقد معها جزءًا من قدرتها على إنتاج المعنى، وعلى تفسير العالم من منظورها الخاص. وإذا كانت العولمة تسعى إلى توحيد الأسواق والثقافات، فإن التنوع اللغوي يبقى أحد أهم مصادر الغنى الإنساني. والعربية، بتاريخها وثرائها وانتشارها، قادرة على أن تكون جزءًا فاعلًا من هذا التنوع، لا ضحية له، إذا امتلك أبناؤها الوعي بأن معركة البقاء اللغوي لا تُخاض بالشعارات، بل بالفعل الثقافي والمعرفي المستمر.

المقالات لا تعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن آراء كتابها
التعليقات (0)

لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!