بقلم: القاضي ناصر عمران
الإنسان كائن عقلي، بمعنى انه الكائن الوحيد القادر على استقراء الواقع الراهن ومعرفة الآثار او النتائج او العواقب من خلال ربط الأسباب بالنتائج، وهو بهذه الميزة قد يتفق مع آليات عمل المعالجات التقنية التي تعتمد على المغذيات المعلوماتية لجهاز الحاسوب الالكتروني في الوصول الى حلول تقنية دقيقة وجاهزة، لكن الاختلاف والتفرد الإنساني عن الأجهزة التقنية يكمن في المحددات المعرفية الناتجة عن التجذر الفكري الاجتماعي والمعالجة الآنية للواقع مع قدرة على استجلاء مكنونات الطبيعة البشرية التي تعجز عن إدراكها القدرات التقنية مع قدراتها التكنولوجية الكبيرة.
وهذه المكنونات وما ينتج عنها والتي نستطيع ان نسميها (مساحات الوعي) هي فواصل للزمن وللمكان حضوره فيها فهما ثنائية البناء الطبيعي للمعرفة المنتجة للوعي مع تجاوزنا للواقع التي تعمل فيه كونه المحصلة الطبيعية لتفاعلهما المستمر، والوعي الوقائي هو جزء من منظوماته مساحات الوعي بشكل عام فالجريمة في صورتها الواقعية اعتداء على حق، وجد القانون بأنه يحقق مصلحة جديرة بالرعاية والاهتمام فأضفى عليها حمايته من خلال النص القانوني الذي هو خطاب موجه للمكلفين يبلغهم فيه بان هذا الحق يحظى بالحماية القانونية وفي حالة انتهاكه فان المعتدي سيضع نفسه بمواجهة النص العقابي، ومن خلال هذا النص يتم الإشارة إلى وظيفة مهمة يدخرها النص القانوني ومن ورائه السياسة الجنائية المنهجية التي تشير الى منع الاجرام عبر التحذير من ارتكاب السلوك المعاقب عليه قانوناً وهو تحذير عام يتدرج في التشريعات العقابية ليصل في معالجات وقائية اخرى الى وضع حد للخطورة الاجرامية المحتملة كمعالجة التشرد وانحراف السلوك.
والوعي الوقائي ينطلق من سياسة تتصف بالإطلاق والعمومية والغائية حيث لا يمكن حصر هذه السياسة بوسائل او مجالات محددة فغايتها تنطلق من هدف يتجسد بتحقيق الأمن الاجتماعي والاستقرار والطمأنينة لأفراد المجتمع، كما ان سياسة الوعي الوقائي بنتيجتها النهائية تستدعي تضافر جهود المجتمع أفراداً وجماعات مع مؤسسات الدولة العامة والخاصة باعتبارها مسؤولية تضامنية على عاتق الجميع لمنع الجريمة.
قد يتراءى للكثيرين بأن الوعي الوقائي أو السياسة الوقائية تشترك مع رؤية وهدف السياسة العقابية وبخاصة في تحديد معنى خطورة الشخص وهو قول ليس في محله حيث أن محل الاستهداف في الخطورة يختلف، ففي الوقت الذي تكون الخطورة الإجرامية، وهي خطورة مقترنة بالجريمة هدفا للسياسة العقابية تكون الخطورة الاجتماعية السابقة لارتكاب الجريمة هي محل استهداف السياسة الوقائية، وإذا علمنا بان الخطورة الإجرامية إذا ما توافرت اقتضى فرض التدابير الاحترازية بحق المتهم في حين أن الخطورة الاجتماعية تستدعي معالجة مناخات البيئة الحاضنة والتي تنتج الاسباب التي تؤدي لارتكاب الجريمة والمعالجات تكون اولاً من خلال الرصد للظاهرة الاجتماعية السلبية ومعالجتها بواسطة الفاعل الاجتماعي المتمثل بالأسرة والمدرسة والمؤسسات التربوية والتعليمية والتنظيمات الاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني، وتتجسد طبيعة العمل الاجتماعي من خلال الورش والندوات والمؤتمرات والدراسات والسياسات الحكومية وغير الحكومية التي تهدف الى معالجة هذه الظواهر قبل تحولها الى الشكل الاجرامي المعاقب عليه قانوناً.
أقرأ ايضاً
- دور الاسرة في تعزيز الوعي بالقانون عند افرادها
- الوعي الصحي.. ثقافة مجتمع
- فتوى الدفاع المقدس والوعي الجمالي