بقلم: علي الراضي الخفاجي
ما كانت مناسبة أربعينية الإمام الحسين عليه السلام بهذا المستوى من المشاركة، حتى أصبحت مشهداً عظيماً وعلى مرأى ومسمع من شعوب العالم على مختلف قومياتها وأديانها، وقد ساعد على عالمية المناسبة مايشهده الحاضر ويسمعه الغائب عن مشاهد إنسانية جاذبة ومؤثرة، إضافة إلى دور وسائل الإعلام وسرعتها، ولكن ما يؤخذ بنظر الاعتبار هو: إنَّ الإنسان كلما كان على قدر كبير من المعرفة والوعي والعمق يكون مستلهماً للفيوضات الروحية والقيم المعنوية، ومشهد الأربعين يمنح الإنسان طاقة روحية تأخذ به من الحالة السلبية التي يعيشها ومن النظرة التشاؤمية التي تطرأ عليه من تقلبات الدنيا إلى الشعور بالقيمة والدور وبالسكينة والاطمئنان.
فبالإضافة إلى مراسم الزيارة واستذكار الفاجعة التي هي الأساس الذي قامت عليه ذكرى الأربعين، نقف في هذه السطور عند شعيرة وممارسة، وهذه الشعيرة هي(المشي نحو كربلاء)، أما الممارسة فهي(ما يستعرض من تشابيه تجسد الملحمة).
ففي المشي يكتشف الإنسان الوجه الآخر الغير مادي للحياة، فيراها حياة بسيطة خالية من التعقيد والقلق وبعيدة عن الهَوَسْ والمزايدات، وبه يعود الإنسان إلى الطبيعة كما خلقها الله تعالى، ويستغرق في ذاته بالشكل الذي يجعله يراجع مواقفه وأفكاره، لذا ينبغي عليه أن يكون زاهداً في المظاهر والملذات إلا ما يُقيمُ صُلْبَهُ ويُوصِلَهُ بأمان إلى من تهوي إليه القلوب، وليست ممارسة المشي في الأديان والفلسفات بجديدة فقد اعتبره فلاسفة الإغريق فعالية فلسفية وفرصة للتأمل والمراجعة.
ما ينبغي أن يلْحظَهُ الماشي - كي لاتفوته فرصة النيل من ثواب هذه الشعيرة - أن يتحكَّم في تصرفاته ويبتعد عن كل ما يُفسدُ خشوعه على مستوى النية والنظرة والكلام وأن يجعل من خطواته تسبيحاً.
يقول الشاعر الأندلسي يحيى بن الحكم:
يُعرفُ عقلُ المرءِ في أربعٍ مِشْيتُهُ أوَّلُها والحَرَكْ
ودورُ عَينيـــــهِ وألفاظُـــــهُ بَعْدُ عليهنَّ يدورُ الفَلَكْ.
فالعاقل وقورٌ في سَيرِهِ، هادئٌ في حركته، ورعٌ في نظراته، حَسِنٌ في منطقه، ليس فيه شيءٌ من صفات الأحمق من الطيش والاضطراب والزيغ والهذي.
أما ممارسة الاستعراضات والتشابيه فهي إذا وافقتْ التعاليم الدينية وانسجمت مع الآداب والثقافة الإسلامية، وكانت صادقة في التعبير فإنها عملٌ لايُستهانُ به، ووفق هذه المعايير فإنَّ هذه الممارسة تدخل في المسرح العاشورائي الهادف.
وعلى الرغم ممَّا تحمله التشابيه الحسينية من تجسيد تراجيدي بسيط يمثل إمكانية القيام بأعمال عالمية لو تمَّ تقويمه والعناية به؛ لكون من يقوم به هو وليد رحم المعاناة ومن بيئة عاشت رواية المأساة، فإنه وللأسف الشديد لم يُقدِّم المسرح العراقي بَعْدُ لواقعة الطف عملاً فنياً احترافياً يرتقي إلى المستوى المطلوب بحيث يُجسِّدُ وَعْياً وحسًّا بالفاجعة، إنما ظل مقتصراً على التشابيه التي يقيمها الناس حسب إمكاناتهم البسيطة سواء في العشرة الأولى من المحرم أو أيام الأربعينية، ومنها ركضة يوم عاشوراء وما تتضمنه من تمثيل حرق الخيام بحيث تخلق جواً مُفعماً بالحزن والجزع ممَّا يجعل المشارك والمشاهد في حالة استشعار تام، وفي ساعة روحية لاتُعوَّض، وعلى ساحة لايجدُ لها بديلاً لاستحضار الفاجعة.
إنَّ ما ينبغي أن يكون في تجسيد رموز الملحمة هو اتزان الشخصيات التي تجسد بطلها ورجاله بالخلق والوقار على العكس من شخصيات الفجرة والمردة من المعسكر الثاني، ومايلزم على وجوههم من إضافات تجسد عُتوَّهم وقسوتهم، كما أنَّ بيئة كربلاء صُنعتْ للحزن والاستذكار وذلك بشهادة الأنبياء والأوصياء، أما عاشوراء فقد شاء الله سبحانه وتعالى أن يصنع منها مدرسة يستلهم منها أحرار العالم على مدى الدهور والأجيال الدروس والعبر.
أقرأ ايضاً
- الرزق الحلال... آثاره بركاته خيراته
- نتائج التسريبات.. في الفضائيات قبل التحقيقات!
- القرآن وأوعية القلوب.. الشباب أنموذجاً