- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
شهر محرم نقطة الشروع إلى التحرر - الجزء الثاني
بقلم: حسن كاظم الفتال
تربية النفس وترويضها
في شهر محرم الحرام تتعدد صيغ التعبير لدى الناس عن الإنتماء إلى المنهج الحسيني بظاهرها وباطنها بعلنها وخفيها وربما تكون صيغ التعبير الظاهري أكثر بروزا ووضوحا ولأسباب معينة ولا يآخذ عليها أحد وليس بالضرورة أن تتصادم الصيغ الظاهرية مع الجانب المعنوي الجوهري أو الصيغ التي تستقر وتنطلق من عمق النوايا ولا يحق لأحد المطالبة ببيان تفضيل هذه على تلك أو المطالبة بإهمال أحدى الصيغتين ولكن ينبغي أن ندعو إلى أن يفوق الجوهر على المظهر وهذا أمر طبيعي ويلزم على الكل أن يعي ويدرك تمام الإدراك أن الإمام الحسين عليه السلام قد استشهد من أجل إعلاء كلمة الله وكلمة الحق ومن أجل ترسيخ المبادئ الإيمانية وتثبيت العقيدة المحمدية وكل هذه الممارسات تلحظ إلى أن ممارسها استطاع أن يتعرف على الإمام الحسين عليه السلام معرفة جيدة ولكنها تحتاج إلى رفد وتعضيد بإمتدادات فكرية حقيقية يقدمها الفرد بما يتاح له من قدرة.
أما ابرز مظهر من مظاهر إعلان الإنتماء هو إقامة المجالس الحسينية والتي هي لب ممارسة الشعائر الدينية ولعلها أخذت الحصة الأكبر في مجال بيان وتعريف أهداف القضية الحسينية العظيمة. ولا شك أن الأعداد التي تشارك في هذه التجمعات ساقتها العقيدة والقناعة التامة بأن عملية إقامة هذه المجالس هي الأخرى تمثل إعلانا للإلتزام بمنهج الثورة الحسينية.
ومثلها تشكيل المواكب الحسينية فإن المشاركة فيها يمثل غاية الإنتماء والإلتزام بالمنهج وهو إعلان التأييد والإستجابة الواعية الحقيقية لصرخة الإمام الحسين عليه السلام والتسليم التام بأن ثورته عليه السلام هي صرخة حق بوجه الظلم والباطل كما وتمثل هذه المشاركة استجابة واعية لإستغاثته عليه السلام حين وقف مناديا (ألا هل من ناصر ينصر دين الله) ناهيك عن أن المشاركة في هذه المواكب والهيئات الحسينية يمثل الإفصاح بمفهوم المعرفة وترجمة هذه المعرفة بوسائل وأساليب وطرق معينة الكل يعتبرها هي الطريقة السليمة ولعله لا يحق لأحد قط أن يضع أيا من هؤلاء المشاركين في قائمة من لا يعرف الحسين عليه السلام وقضيته معرفة تامة فالكل يمتلك من المعرفة بدرجة معينة وبدراية معينة وبنسبة من الفهم مع اختلاف الخطوط البيانية للمعرفة والمصداقية.
إشعاعات صور المعرفة
ليس منا من ينكر بأن الكثير من الصور تستدعي أو تستحق التوقف عندها وتأملها بل مشاهدتها بإمعان إذ أن بعضها يترك أثرا بالغا في ذاكرة مشاهدها.
يرسم بعض الأفراد في آفاق شهر محرم الحرام صورا كثيرة ومنها ما يرسم بإتقان بالغ بعد أن أخذت العقيدة في نفوسهم مستقرا عميقا. ومن يطلب شاهدا يدعم هذا القول دونه تلك الصورة الجميلة الرائعة التي يرسمها البعض حين ينصرف بشكل تام أيام شهر المحرم الحرام عن متعلقاته ويتطوع للعمل في تكوين المواكب والهيئات الحسينية أو الحث والتحفيز على تكوينها. وكم يتخلى المشارك في كثير من هذه المواكب عن أمور لعل البعض يتمسك بها واي تمسك ويعدها مهمة.
يتخلى المشاركون عن اغتنام الفرص الخاصة وعن المصلحة الخاصة وعن كثير من أمور الدنيا ويتنازل عن كل اهتمام إلا الإهتمام بمواصلة المسيرة لهذه المواكب. ومن سمات هذه المواكب أن المشاركة فيها لا تقتصر على عمر معين فلا علاقة لها بصغر السن أو كبره مثلما لا تقتصر على جنس واحد بل تشمل كل الأجناس وكل الأشكال لا فرق فيها بين عربي وعجمي ولا فرق بين اسود وأبيض ولا بين وجيه قوم وسيد وبين عامي، وهذا دليل آخر على أن هذه المواكب قاسمها المشترك انبعاث إشعاع لتوهج وإشراقات الثورة الحسينية الإنسانية.
فمن منا لم يشاهد الكثير من العلماء والوجهاء والشخصيات المرموقة والتي لها مكانة ومنزلة بين المجتمع تشارك في مثل هذه المواكب دون أن اعتذار أو توجس بخشية أو خجل لا تتهاون أو تتحاشى أو تتردد في المشاركة.
ولعل عزاء طويريج يعكس صورة لتجمع جماهيري لا يمكن لغيرها من الصور لأي محفل عالمي أو تجمع أو تظاهرة أو مسيرة في أي بقعة من بقع العالم أن تماثل هذا التجمع الجماهيري الذي يضم مكونات تختلف في كل شيء إلا في مشاركتها في مثل هذا التجمع.
ولا يتردد بعضنا في أن يطرح بعض الأسئلة ومنها: كم منا من يأنف أن يسير حافيا لخطوات مهما كلفه الأمر؟
أو أي وجيه محترم يتشرف بارتدائه زي آبائه وأجداده وهو العقال يتساهل في خلع عقاله أو ميله أو تهدل عباءته؟ أو أي دكتور أو أستاذ لا ينحني مرات عديدة ليلاحظ هندامه فيعدل اعوجاجه إن حصل أو ليزيل بقعة أو شيء من الغبار على بدلته الأنيقة الزاهية؟ لكنه بهرولته لا يلتف لأي أمر من ذلك.
نعم تطرح هذه التساؤلات عند مشاهدة المشاركة في مسيرة عاشوراء. لا يأبه كل هؤلاء من أنهم يهرولون دون أي حساب واعتبار لأي شيء إلا لحساب واحد إنهم يعتقدون بل وهم متيقنون بأنهم ماضون لتعزية رسول الله صلى الله عليه وآله وكل أهل بيته الأطهار عليهم السلام وهي من ناحية أخرى دليل من أدلة إعطاء البيعة لمن بايع الله جل وعلا ورسوله صلى الله عليه وآله وكان قربان بيعته وثمنها دمه الطاهر وتجديد العهد له بالإقتداء بمنهجه والسير على أثره.
وإن مثل هؤلاء لا يلامون لأنهم استندوا إلى إسناد معين والتزموا منهجا وساروا على قاعدة وضعها يوم الطفوف (عابس الشاكري) فحين تصرف تصرفا حسبه البعض غير مألوف أو لا سابقة له فسألوه هل جننت؟ فأجاب: نعم حب الحسين أجنني. فلا بأس ولا ريب ولا عيب أن يصنع الناس في مشاركاتهم في مثل هذه المواكب ما يصنعون إذ أن حب الحسين عليه السلام أجنهم.
وحين يعيب علينا الآخرون هذا الحب الجنوني فنقول: لسنا الوحيدين المتيمين بسبط خير خلق الله النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وبصيغة يمكن أن توصف بأنها جنونية ولمنقذ البشرية من ضلالها وظلمات زمانها. ثم لِمَ لا نجن بحبه وقد علمنا كيف نكون أحرارا نقطتف أزاهير كرامتنا إقتطافا واعيا وننتزع من قبضات السلاطين الجبابرة حقوقنا ونحرض التأريخ بأن يطبق حكمه العادل بكل حكام الجور حتى وإن لم يعوا هم ذلك أو لم يعترفوا أو لم يعلنوا عنه، علمنا كيف لا نقر لهم بالعبودية.
كيف لا نذوب في حبه وجده رسول الله صلى الله عليه وآله ملأ صوته الخافقين حين أوصانا وبشرنا في الوقت ذاته يوم قال: أحب الله من أحب حسينا.
حذار .. حذار من الميل
إن صورة تشكيل المواكب تلك التي أعددناها من أجمل وأقدس الصور التي يعكس بريقها الإقتداء بالمنهج المحمدي الرسالي لا شك أنها تحتاج إلى جلاء لتزداد صفاء ولمعانا وما الجلاء إلا مساهماتنا وبوعي وتفهم لا بالمشاركة الصورية السطحية الهامشية.
وأول من ينبغي أن يخاطب في هذا المحور هم أعزاؤنا الشباب لتميزهم وتفوقهم بالمشاركة في مثل هذه المواكب كما ونوعا فنقول: أيها الأعزاء يقر كل الناس من المسلمين وغير المسلمين ممن يتميزون بالوعي إقرارا تاما بأن هذه الشعائر كانت من أقوى الدعائم التي استندت عليها ديمومة الرسالة المحمدية وليس فينا من لا يدرك أن الإسلام محمدي الوجود وحسيني البقاء.
لذا عليكم أن تتأملوا كثيرا حين يمر عليكم هذا الشهر الحرام خصوصا وأن أغلبكم يشارك في المواكب والهيئات الحسينية ومجالس العزاء .. ونحن نعد مشاركة الشباب في مثل هذه التجمعات مهمة جدا فعليكم أن تجعلوا مساهماتكم هذه جوهرية روحية حقيقية وأن تكون ليست مجرد لقلقة لسان أو مساهمة سطحية هامشية تمر ولا تترك أثرا في النفس .
لنأخذ جميعا الدرس العظيم في أن لا نتخاذل ولا نتراجع ولا نحيد عن طريق الحق، حذار من أن تخدعنا الشعارات البراقة الزائفة والتي يريد منها مطلقوها أن يمرروا عن طريق غفلتنا لا سمح الله مآرب يحققون بها مصالح شخصية. وأن نكون في غاية الحذر من أن تجرفنا تيارات ليس لها منهج إلا المهاترات والإعتماد على التظليل والتمويه وخداع الآخرين.
وأما الأخوة منظمو الشعائر والمواكب والهيئات الحسينية والمتكفلون بإقامتها يتعين عليهم أن يهتموا اهتماما بالغا بجوانب كثيرة تتعلق بهذه المواكب كعملية التنظيم والعناية بها ورعاية الشباب رعاية نموذجية وتوجيههم والتأكيد على تذكيرهم بأن تترك هذه المشاركات أثرها فيهم، ولا يفوتنا التركيز على الجانب التربوي والمعرفي وتعليم أحكام الإسلام والإعتناء بالجانب الإخلاقي وكل جوانب التوعية وحتى الجانب الصحي وأن يلتزم الجميع إلتزاما تاما بالحديث الشريف (تنظفوا أن الإسلام نظيف) ونأخذ كل جوانب الحديث من ظاهره وباطنه وبتفسيره الظاهر وتأويله.
وأنتم يا صناع الأدب
من الواضح أن الشعائر الحسينية ومنها المواكب كثيرا ما تحتاج إلى عناصر رفد ومدد يجدد فيها الروح للحفاظ على ديمومتها كما ذكرت سلفا ولعل من ابرز هذه العناصر ذوي الذائقة الرفيعة صناع الكلمة الراقية المتألقة وأعني بهم الشعراء.
واعتزازنا بهذه النخبة واعتقادنا بأهمية دورهم الفاعل وجدية إسهاماتهم يدعونا أن نلتمسهم أن يضعوا في الحسبان أمورا كثيرة قبل أن ينهمر من سلسال ذائقتهم العذبة أي غيث رائق عذب لكي يكون النتاج بمستوى حجم القضية التي يتناولونها ولا يكرسوا الكم على حساب النوع.
ينبغي على الشاعر أن يتسلح بثقافة تمكنه من أن يموج في بحور الشعر دون أن يغرق حتى على سواحلها، وأن يكون على دراية ولو نسبية بأحاديث وروايات أهل البيت عليهم السلام ليستطيع بثقافته تحويلها إلى لغة شعرية عقائدية سلسة شفافة راقية يخاطب بها العقول على مختلف مستوياتها الإستيعابية لبيان الحقائق دون أي تزييف أو تحريف أو تشويش للصور الواقعية.
عليهم الإهتمام والإعتناء بكل منجز أدبي ونموذج شعري وأن لا ينطقوا عن هوى إلا عن وعي تام وعقيدة صادقة مشحونة بأجمل وأنفع الأفكار. ولا يفوتهم في أن يجعلوا من أشعارهم وأناشيدهم التي يصوغونها إشعاعات تذري قيما ومبادئ ومفاهيم يكتسب منها المتلقي منافع عقائدية حقة لا مجرد مفردات وقوافٍ مصفوفة تتكرر في كل مقطوعة لا تغني ولا تسمن.
أقرأ ايضاً
- ماذا بعد لبنان / الجزء الأخير
- التكتيكات الإيرانيّة تُربِك منظومة الدفاعات الصهيو-أميركيّة
- مراقبة المكالمات في الأجهزة النقالة بين حماية الأمن الشخصي والضرورة الإجرائية - الجزء الأول