ترك طفلا مجهول الهوية ممدا بثياب ممزقة يلتحف الرصيف وترتجف اطراف من البرد في احدى طرقات كربلاء وقبضت اصابعه الغضة على بقايا طعام، لا احد يعرفه، او يعرف من تركه على قارعة الطريق، جسده مليء بالجراح والاهمال والوسخ والعفونة تكسو جلده، لا يتكلم ولا يفهم شيء من أي حوار يتبادله المارة معه ليساعدوه، ليس له اسم ولا تركت معه وثيقة رسمية تثبت شخصيته، ضائع متشرد فاقد للاسرة وحنان الام ورعاية الاب، طفل رمي في طاحونة الاقدار بسني عمره الصغيرة، نام على الرصيف وفي نفسه احلام جميع الاطفال باللعب والمرح والسعادة، ولكنه لا يعرف اليها طريقا، فلم يلعب يوما في متنزه او حديقة ولا اشترى له احدا لعبه او حلوى، ليس بينه وبينه الحضانة او الروضة او المدرسة علاقة، فامه وابوه هما الشارع والرصيف، لا يوجد في الكون اكثر منه حاجته لجناح عائلة يعيش بكنفها وام ترنم له لينام او اب يدس في يده اصغر فئة نقدية ليشتري بها ما تهوى نفس كما يفعل جميع الاباء مع ابنائهم، لا احد يهتم به وكأن الانسانية في سبات، فهو عرضه للاستغلال الجنسي او التسول او تجارة الاعضاء، وكل قصته هي عيش في ليل حالك الظلمة وجوع يعصر البطن وبرد قارص، فهو طفل مشرد تائه نام على الارض والتحف السماء، ووسط كل تلك المأساة امتدت يد المرجعية الدينية الرحيمة لتنتشله وتداريه وتعالجه وما زالت تقدم له يد العون.
بداية الحكاية
يسرد مسؤول قسمي التأهيل والاكاديمي في اكاديمية السبطين لعلاج التوحد واضطراب النمو التابعة للعتبة الحسينية المقدسة "وسيم رشيد صبيحة" لوكالة نون الخبرية بالقول ان" الطفل الذي اسميناه "حسين" لا نعرف له اسما عندما جاؤوا به للعلاج في الاكاديمية كونه لا يتحدث ويعاني من التوحد، واصبح الان ايقونة يحبها جميع العاملين حتى اصبح اسم "حسوني" ملازما له، احضر الينا قبل حوالي سبعة اشهر من دار الايواء التابع للعتبة الحسينية المقدسة وكان تقديرنا لعمره حينها يتراوح بين (7 ــ 8) سنوات، وعلمنا منهم انهم عثروا عليه مرمي بالشارع بحالة صحية سيئة جدا حيث توجد في جسده كدمات وجروح، ولا يعلمون عنه شيئا لا اسم ولا معلومة ويرتدي ملابس رثة وجسد فارق الغسل والنظافة منذ مدة، وكانت حالته مزرية ويشعر بالخوف الشديد وعدم الامان من أي شخص ومرعوب ولا يستطيع أي شخص يلمسه لانه يتخذ ردة فعل دفاعية فورا، ولا نعلم أي عنف او مشاكل تعرض لها في الشارع".
خطة العلاج
محور مأساة هذا الطفل تكمن في العامل النفسي لذلك وضعنا خطة لعلاجه تركز على العلاج النفسي له، هكذا يصف صبيحة اول خطوة للعلاج ويكمل حديثه بالقول" بدأنا خطتنا لعلاجه بالتنسيق مع دار الايواء الذين بذلوا جهود مميزة واستثنائية في احتضانه وتأمين المكان الآمن والمناسب له كونه لا يملك لغة للكلام او التواصل، ووفروا له الرعاية الصحية عبر اجراء جميع الفحوصات ومعالجة الجروح والكدمات في جسده وتخصيص معالج اجتماعي مرافق له على مدار اليوم كان يعامله كأبن له وبالمقابل شعر الطفل بالأمان معه، وشخصت حالته لدينا باصابته باضطراب طيف التوحد وحاجته الى عناية خاصة، لذلك لم يكن مؤهل ان يدخل للدوام في الاكاديمية فبدأ علاجه بالجلسات الفردية المكثفة في الاكاديمية لعلاج الحالة السلوكية ومعها العناية والرعاية من المعالج الاجتماعي في دار الايواء، وبعد شهر من الجلسات كسرنا حاجز الخوف وتحسن سلوكه وبدأ يستجيب للجلسات ويؤدي ما يطلب منه فاصبح مؤهلا لدخول الاكاديمية، وبالفعل باشر بالدوام واصبح يتعامل مع المحيط الذي يعيش معه، وتعلم الكثير من التصرفات وخضع لتقييم برنامج (ABLLS) وهو اداة لتقييم المهارات الاساسية للتعلم واللغة في علاج التوحد، ووضعت له خطة تدخل فردية وجماعية من قبل المدربين والمدربات في الاكاديمية وتطورت لديه الكثير من المهارات اللغوية، والادراكية والمعرفية، والحركية الدقيقة والكبرى في الرياضة، والمهارات الاستقلالية والاجتماعية".
عافية تعود
وبدأت عافية "حسين" تعود واصبح يتفاعل مع المحيط والمعلمات واصدقائه في صف التعلم ويتكلم ويعطي بعض المفاهيم ويطلب امور يريدها، هكذا يصف حالته الآن ويضيف" وكان لا يستطيع طلب ما يريد ولا نعرف نحن الاشياء التي يريدها، واصبح يشعر بالامان بشكل كبير ويسلم على الاشخاص وينطق بكلمات كثيرة ويجيب على بعض الاسئلة، وبالرغم من ان جميع المعلمات والمعلمين من المدربين يعاملون الجميع بروح الابوة والامومة والمسؤولية بشكل متساوي لحاجة الجميع الى رعاية خاصة، الا ان الطفل "حسين" يحتاج الى رعاية اكثر بشكل مضاعف لانه يفتقد الى العائلة، بينما الباقين يعودون يوميا الى عائلاتهم لتحتضنهم وتراعيهم، حيث كان في بداية تحسن حالته يذكر كلمة "ماما" واسماء اخرى اعتقدنا انها لاخوانه او اخواته، فاصبحت معلمة الصف "امه" بمعنى الكلمة واحتضنته بشكل ايجابي وتعلقت به جدا، ولا احد يتصور حجم السعادة التي تبدو عليها مع أي تطور ايجابي لهذا الطفل في حالته المرضية، بينما كانت تحضنه وتبكي عندما كان يصعب عليه تناول الطعام واكتشفنا بعدها بوجود التهابات في اللثة، وكذلك عندما اجريت له عملية رفع الزائدة الدودية، ومن يراها يشعر فورا انها امه وهو ولدها".
قاسم الحلفي ــ كربلاء المقدسة
تصوير ــ عمار الخالدي
أقرأ ايضاً
- هل ستفرض نتائج التعداد السكاني واقعا جديدا في "المحاصصة"؟
- في حي البلديات ببغداد: تجاوزات ومعاناة من الكهرباء والمجاري ومعامل تلحق الضرر بصحة الناس (صور)
- المجلس الشيعي الاعلى في لبنان: السيد السيستاني الداعم الاقوى والاكبر للشعب اللبناني في هذه المرحلة المصيرية(فيديو)