- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
تخافت توهج التراث بين المؤرخين والمتأرخين
حجم النص
بقلم:حسن كاظم الفتال
في هذه المرحلة الاستثنائية ـ إن صح التعبير ـ مرحلة الفوضى الخلاقة ليس غريبا أن نعاصر تنافساً شديدا بين أصحاب المزاعم والإدعاءات الذين تضاعفت أعدادهم خصوصا من الهواة لكل الفنون أولئك الهواة الذين استسهلوا إن لم نقل استخفوا بالاحترافية لكل الفنون . التأريخ : هو سجل ضخم واسع المدى يضم في طياته أمارات وتعاريف وتوضيحات وبيان لوقائع وحوادث الأمم والمجتمعات والأفراد وهو حلقة الوصل التي توشج العلاقات بين الماضي والحاضر والمستقبل تستمد الأجيال من التأريخ حضاراتها . فالتأريخ يصنعه الانسان ويثبت قوائمه وأعمدته الراوي الرائي الذي يجسد صورته ببراعة ومهارة فائقة بعد مشاهدته بإمعان ودقة متناهية فيسوق الأجيال لأن تتمعن بها بل تَنْشَدُ إلى بريقها غاية الإنشداد وترتكز على انعكاساتها لذا يفترض أن يُقرأ التأريخ قراءة صحيحة حية واقعية بموضوعية وجدية ترتكز على عامل النقل والعقل بل يتقدم العقل كعنصر أساس فيتغلب العامل العقلي على النقلي والتأريخ كعملية فهو علم واختصاص يتجمل بخصوصيات ومبادئ والمؤرخ هو المفسر لهذه الخصوصية والمعبر عنها والمفكك لرموزها والموثق للأحداث التي يشهدها حين وقوعها ويحضر وقوعها أو ما يحصل عليه من شهادات شهود عيان موثوقين شريطة ان تعينه مهارته واستعداده التام على استنطاق الشهود بأريحية وببراعة فائقة تيسر له مهمة كشف الحقائق وفك الرموز وحتى الألغاز وأن يتقن فن الفرز والفصل بين ما هو أقرب للصدق والحقيقة والواقع وبين ما هو عكس ذلك ولعل ذلك يتحقق حين يكون ذا عقلية متفتحة واسعة يستوعب بها ما يحيط بمجريات الحقائق بفضل إتقانه للمقارنة اتقانا محكما وتثبيت كل ما هو حقيقي واتقاء الوقوع في شفا جرف الأخطاء الفادحة .
مهنية وحرفية المؤرخ وفروسيته
ولعل عملية التأريخ كمهنة لا تعتمد تماما على الدراسات أو نيل الشهادات إنما لفطرة سليمة والقدرة على قراءة الأحداث ولعلنا لا نجافي الحقيقة كثيرا حين نصف المؤرخ كفارس يتقن فن الفروسية ويكون بكامل الجهوزية والتأهب والاستعداد لقطع أشواط طويلة دون ملل وكلل . وعلى هذا الفارس فضلا عن انصهاره بموهبة التوثيق أن يتمتع بملكات وفيرة ربما خارقة تتحد مع سلامة الفطرة تنتج عقلية متوهجة وبصيرة حادة نافذة يستطيع تصويبها نحو الماضي القريب والبعيد وتشابك امتدادات الماضي بالحاضر ومن ثم اختيار المواقع والمواطن والموارد التي تحدد له المسارات التاريخية وتصححها اذا اعتراها أي خطأ أو خلل . أن يكون قادرا على غربلة ما يرده من معلومات فائضة من هنا وهناك خلال استقصائه وجمعه للشهادات أو لما شوهد . أن يكون فطنا لا يستعصي عليه فهم ومعرفة تباعد وتقارب المسافة الزمنية وتأثيرها على كينونة الحدث وعلاقة ذلك على الترابط والتجديد بإبقاء وزوال أهمية أو أثر وقع الحدث وكذلك مدى تعاطي الأجيال وفهمها ومدى قبولها ورفضها لبعض الوقائع . فإن المقومات والقدرات التي تتوفر بالمؤرخ تنعدم لدى سواه فهو ربما ينفرد بها وذلك لا يعد معجزة أو مبالغة بالأمر إنما يستلزم عمله ذلك ليحقق أمرا لم يحققه سواه . المؤرخ البارع لعله الأبرز والأكثر تفاعلا مع التأريخ ومجرياته وهو الراصد متغيرات وتحولات مسارات التاريخ ويتعاطى معه بشفافية ومصداقية وصفاء ووفاء ونزاهة وحيادية دون الانحياز أو الميل لجهة أو بيئة أو طبقة معينة على حساب اخرى . ويوظف كل اهتمامه الواسع وجهده وحرصه لكتابة التأريخ ولكن ليس بالصيغ التي يتناولها الآخرون من غير المختصين . إذ هو يسرد الأحداث والوقائع سردا منسقا منظما مشوقا وبمنهجية عالية ومتتاليا بالرصد والتشخيص والتعيين والتدوين ويوظف كامل قدراته لمتابعة كل شاردة وواردة مما يدعو أن يتخذ منه الناس مرجعا ويصبح مرآةً تأريخية يتمرى بها التائقون إلى التجوال في حقول المعرفة ويستأنسون بالنظر إلى ما يدون . يجدر بالمؤرخ الحقيقي أن يكون من صناع التأريخ حقاً يستند ويعتمد إلى حقائق ووثائق مضبوطة بينة جلية حقيقية موثوقة . أو على شهود معتمدين ثِقات صادقين يضمن من خلالهم تمام الصحة والأصحية للمعلومة المطروحة . لا أن يتقمص دور الحكواتي أو مجرد راوٍ بل ناقل يتكئ على روايات متداولة أشبه بالأساطير منبعثة من هنا وهناك ما أنزل التاريخ بها من سلطان لا يعضد صحتها سندٌ إنما صدرت من تناقل ألسن العامة بما يتناغم مع أمزجتهم . فعليه أن لا يتعاطى معها كمسلمات يعتمدها سندا ويحكيها بسرد قصصي .
تحليل رمزية الصورة
يتوجب عليه أن يدرك بأن وظيفته تستدعي أن يحول الحوار السردي أو ما يوصف بالصورة الجامدة إلى صورة متحركة ناطقة تشاهدها البصائر لا ريب أن عملية تدوين وسرد الاحداث ما هي إلا مسؤولية أخلاقية شرعية اجتماعية تأريخية بحتة .وهذا ما يحتم عليه ـ أي المؤرخ ـ أن يجيد فن التمييز والفصل بين ما هو عقلي وما هو نقلي وأن يتيقن قبل النقل تمام التيقن مما سيدونه على أنه حقائق . وهذا ما يتأتى بتبني مهمة الاستقصاء وبجهد مضنٍ للظفر بنتيجة طيبة بعيدا عن اعتماد الحكايات التي تتناولها بعض الأفواه ويتلقفها الملّائيون أو المتكسبون .مما يستدعي توخي الحذر من أن يكون فريسة نقل وتدوين الخبر الواهم أو ذي السند الضعيف أو تصديق بعض المحاولات من قبل أشخاص أو فئة أو جماعة بإشاعة معلومات خاطئة هدفها طمس الكثير من المعالم والحقائق التأريخية . وله أن يتقن عملية الانتقاء بما يتساوق مع الحقيقة والمصداقية فضلا عن اكتساب صفة التمرس والتخضرم ليكون محنكا واسع الخبرة قادرا على الفرز والتمييز متمتعا بقدرة الاسترشاد وامكانية تحليل الدليل العقلي قبل التصريح بالنقلي خصوصا حين يحصل تضارب وتغاير الآراء في الرواية الواحدة فما عليه إلا التتابع والاستقصاء والبحث والترصد للتأكد من الأسانيد وفصل ما هو معقول ومقبول عن ما هو غير معقول وغير مقبول وعزل ما هو صالح عن ما هو طالح نائيا عن اعتماد بعض المرويات التي يسمعها ويدونها وكأنها تملى عليه فله أن يرفضها دون أن يتمادى ويصر على تدوين ما يروى دون سند متخليا بذلك عن مسؤوليته الشرعية والتاريخية والاجتماعية والأخلاقية وله أن يدرك أن التراث ذخيرة نفيسة تدخرها المجتمعات وتأنس بعرض الصور في الأذهان ورؤيتها بوعي الخيال بين فترة وأخرى وترفض رفضا قاطعا التفريط بهذه الذخيرة بسهولة لأي سبب أو ظرف كان .
الذاكرة التراثية تكتنز من الصور الذهبية ـ
ولعل من مقومات عمل المؤرخ ما يؤهله لذلك دراسة خواص وخصوصيات ومناخ البيئة المراد تعريفها وما تنتج البيئة من عوامل وآثار ووضع دراسة تأريخية عنها وإجادة ممارسة عملية تحليل بواطن الكنايات والاستعارات وفك رموزها وكشف غوامضها لضمان إبراز المعلومة المطروحة مزهوة بالوضوح والوثوق عند ذاك يتيسر له أن يتمتع بحرفية ومهنية تجعله يجيد التوثيق التأريخي ويُصنَف بانه مؤرخ. لعله يحق للمؤرخ أن يجعل قسما من مصادره المعتمدة بعض المذكرات التي تدونها الشخصيات التاريخية أو السياسية أو الاجتماعية من تلك الشخصيات البارزة اللامعة ويجعلها وثيقة مصدقة موثوقة ومصدرا مهما. كل ما تقدم يدعو لأن يضع المؤرخ بالحسبان أنه سيكون مصدرا مهما من المصادر التي سوف يعتمدها الرواة والقصاصون والأدباء والشعراء وحتى الاعلاميون وغيرهم . لذا يتعين على من يزعم الإجادة في اقتحام ميدان التأريخ ان يكون بكامل جاهزيته وبأتم التأهب مع إبراز الدلائل والأسانيد التي تثبت أهليته لدخول هذا الميدان وإلا يشد الرحال وينتخب ميدانا يناسب قدراته فيتدرع ويلجه .