ما يزال الغموص يلف موقف الحكومة العراقية بشأن وجود القوات الأمريكية، ففيما صرح رئيس الحكومة محمد شياع السوداني، عن وجود مساع لإخراج هذه القوات، كشفت تسريبات لصحيفة أمريكية نقلا عن مستشارين للسوداني، تفيد بأنه يتجه للتفاوض "سرا" مع واشنطن لإبقاء قواتها.
ويحذر مراقبون للشأن السياسي من أن هذه المواقف "العلنية والسرية"، ليست من مصلحة السوداني، لأن إرضاء جهة سيغضب الأخرى، وفيما يرى محلل سياسي أن المتغيرات الأمنية التي حصلت أوقعت الحكومة بهذا الموقف، يشير آخر إلى أن رئيس الحكومة اضطر لهذا التوجه بالمواقف، ليكون أحدهما علني للانحناء أمام العاصفة بعد كل تصعيد يجري بين الفصائل والأمريكان، وآخر سري تحت الطاولة يجامل فيه الأمريكان.
ويقول المحلل السياسي أحمد الشريفي، إن "التناقض بدأ منذ تسنم السوداني السلطة، ويتعلق ذلك بالتزامات وشروط تشكيل حكومته الحالية، وهي الالتزام باتفاقية الإطار الاستراتيجي وإعطائه وعودا لمبعوثة الأمم المتحدة والسفيرة الأمريكية بعدم المساس بالوجود الدولي والمصالح الأمريكية".
ونشرت يوم أمس الأربعاء، وكالة رويترز مقابلة مع السوداني، حول بقاء قوات التحالف الدولي في العراق، وفيها أعلن صراحة عن التوجه لإخراج قوات التحالف بشكل "سريع".
ووصف السوداني في حديثه لرويترز وجود هذه القوات بأنه "مزعزع للاستقرار وسط تداعيات إقليمية ومنها حرب غزة"، مؤكدا أن "هناك حاجة لإعادة تنظيم هذه العلاقة حتى لا تكون هدفا أو مبررا لأي طرف سواء كان داخليا أو خارجيا للعبث بالاستقرار في العراق والمنطقة"، مشيرا إلى أن "العراق سيبدأ عملية إغلاقه، وأن الخروج يجب أن يتم التفاوض عليه في إطار عملية التفاهم والحوار، ويكون خروج القوات سريعا بصراحة، حتى لا يطول الأمر وتستمر الهجمات"، مشيرا إلى أن "إنهاء الحرب الإسرائيلية على غزة هو وحده الذي سيوقف التصعيد الإقليمي".
ويستدرك الشريفي، بأن "ما حصل، حدوث متغيّر في الأحداث جعل السوداني يتناقض مع برنامجه الحكومي، وسببه ضغط الفصائل والدور الإيراني في هذه الفترة على القرار السياسي"، متسائلا عما إذا "كان مطلب خروج الأمريكان بفعل هذا الضغط، أم هي رغبة حكومية".
ويستبعد المحلل السياسي، خيار أن يكون خروج الأمريكان "الرغبة الحكومية، لأن هذه الأخيرة تأتي من البرنامج الحكومي والتوافق الوطني، وليس هناك توافق وطني في الأساس لا مع الشركاء كالسنة والكرد، ولا المكون الشيعي، فرئيس الحكومة تحت ضغط ائتلاف إدارة الدولة والفصائل، وفي تقديري أنه بدأ ينساق إلى هذا المحور بعيدا عن تعهداته، وهذه مرحلة خطيرة قد تجعل الأمم المتحدة والولايات المتحدة تعيد النظر في مسألة الثقة بحكومته، لذا عليه الحذر".
وفيما إذا كانت تصريحاته لامتصاص غضب الفصائل، يرى الشريفي أن "مجاملة الفصائل على حساب الدور الدولي والأمريكي، قد يكلفه الغضب من الطرف الآخر، فقد يرضي الفصائل بهذه التصريحات، لكنه يغضب الأمم المتحدة والأمريكان، لذا فإن ليس من مصلحته المناورة بهذا الأسلوب".
ويشير إلى أن "السوداني مقيد ببرنامج حكومي وثوابت وطنية وواقع حال يفرضه الوضع الأمني والعسكري، فالعراق لا يمتلك القدرة على حماية أمنه بعدم وجود التحالف الدولي، وهذا الأمر قد يحدث ثغرة من غير الممكن ملؤها، فالتحالف يمتلك غطاء جوي يمكن أن يساعد العراق كثيرا في التحديات الأمنية".
لكن، صحيفة بوليتيكو الأمريكية، نشرت بعد نحو ساعة من تقرير رويترز، تقريرا أوردت فيه، أن السوداني قال للمسؤولين الأمريكيين سراً أنه يريد التفاوض بشأن بقاء القوات الأمريكية في البلاد على الرغم من إعلانه الأخير أنه سيبدأ عملية إخراجهم.
وبحسب الصحيفة، فأن كبار مستشاري السوداني أكدوا لمسؤولين أمريكيين أن إعلان السوداني كان "محاولة لإرضاء جماهير سياسية محلية"، وأن السوداني نفسه "ظل ملتزمًا" بالتفاوض بشأن الوجود المستقبلي للتحالف في العراق، وذلك وفقا لبرقية وصلت للخارجة الأمريكية من بغداد في 6 كانون الثاني الحالي.
من جهته، يذكر المحلل السياسي غالب الدعمي، أن "الاتفاق على بقاء القوات الأمريكية قديم، لكن جرى تسريب هذه التصريحات بعد إعلان السوداني الرغبة بانسحاب القوات الأمريكية".
ويضيف الدعمي، أن "هناك ضغوطا كبيرة على السوداني بشأن الوجود الأمريكي وهو يدرك أن سحب القوات الأمريكية بالإجبار سيسبب مشاكل كبيرة للعراق"، لافتا إلى أنه "صرح اليوم (أمس) أنه في تفاوض مع الأمريكان وسيفتح حوارا بهذا الشأن، لكنه حتى الآن لم يقم بخطوة فعلية بهذا الشأن، سوى أنه ذكر أنه سيفتح جدولة للانسحاب".
ويتابع أن "هذه الجدولة ربما ستستمر لما بعد حكومته وحتى الحكومة الأخرى، وهذا يشبه المثل الشعبي (جيب ليل وخذ عتابه)، فالقضية طويلة وهذه التصريحات لا تعدو عن كونها إرضاء للفصائل أو إيران التي لا تريد بقاء الأمريكان في العراق، وهذا يعني إطلاق يدها في المنطقة كلها".
وكانت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، أعلنت يوم الاثنين الماضي، إنها لا تعتزم سحب القوات الأمريكية الموجودة في العراق بناء على دعوة من حكومتها.
يذكر أن الحكومة العراقية، أكدت أكثر من مرة، أن الهجمات التي تشنها الفصائل المسلحة على القوات الأجنبية والبعثات الدبلوماسية في العراق غير قانونية وتتعارض مع مصالح البلاد، وأعلنت سابقا عن القبض على بعض المتهمين بهذه الهجمات.
إلى ذلك، يجد المحلل السياسي نزار حيدر، أن "التصريحات الواردة على لسان السوداني في ما يخص هذا الملف تحمل الفوضى على مستويين؛ الأول؛ هو التوصيف الذي يطلقه بشأن الفصائل المسلحة، فتارة يصفها عصابات خارج سلطة الدولة وينعت أفعالها بـالإرهابية، ثم يأمر بتعقبها واعتقالها، وتارة يقول إنها جزء من المنظومة العسكرية الرسمية في البلاد، وهذا يعني اعترافاً ضمنياً بفشله".
ويضيف حيدر أن "المستوى الثاني، هو حديثه عن وجود القوات الأمريكية تحديدا، وما الذي يريد فعله على وجه التحديد، فهو بهذا الصدد لم يتحدث حتى الآن عن قرار عراقي لإخراج هذه القوات، وإنما كل تصريحاته تذكر عبارة مساعٍ من نوع ما لإنهائه، وهناك فرق شاسع بين المصطلحين"، لافتا إلى أن السبب في "وجود انقسام عميق في موقف القوى السياسية من هذا الملف الذي يحتاج إلى قرار سياسي أولاً وقبل أي شيء آخر".
ويلحظ حيدر، أن "هناك خطابين، واحد علني هو للانحناء أمام العاصفة بعد كل تصعيد يجري بين الفصائل والأمريكان، وآخر سري تحت الطاولة يختلف جذرياً عما يسمعه العراقيون منه في الإعلام، وهذا ما كشف عنه امس موقع Politico في تقرير مفصل نشره في موقعه الرسمي، كما أن تصريحات السوداني المبطنة لوكالة رويترز والتي حاول فيها إمساك العصا من الوسط لإرضاء كل الأطراف المعنية بهذا الملف، يعد آخر دليل على أن للسوداني نوعين من الخطاب".
ويرى حيدر، أن "الحق مع السوداني عندما يعمد إلى اعتماد خطابين، إذ أنه بين نارين، فهو من جهة مطلوب منه أن يلتزم بنص البروتوكول السري الذي وقعه المالكي في 2014 والذي أعاد بموجبه قوات التحالف إلى العراق بعد أن منحهم الحصانة والحماية الكاملة، ما يعني أن من واجبه حماية مؤسسات التحالف الموجودة في العراق، وهو من جانب مضغوط بالقرار النيابي الصادر عن مجلس النواب في 2020 والذي طلب من الحكومة إنهاء التواجد الأمريكي".
يذكر أن القوات الأمريكية سبق وأن انسحبت من العراق عام 2011 لكنها عادت بعد ذلك في عام 2014 لمحاربة تنظيم داعش في إطار تحالف دولي، وحاليا لديها نحو 2500 مستشار وجندي في العراق.
واستهدفت الخميس الماضي، القوات الأمريكية القيادي في الحشد الشعبي وحركة النجباء أبو تقوى السعيدي، عبر صواريخ موجهة في شارع فلسطين ببغداد، وأعلن مكتب السوداني في حينها أن الحكومة شكلت لجنة ثنائية لإنهاء وجود القوات الدولية التي تقودها الولايات المتحدة والتي تركز على منع عودة تنظيم داعش.
وأعادت حرب غزة قضية خروج القوات الأمريكية إلى الواجهة من جديد، حيث دعت العديد من الفصائل العراقية إلى الخروج النهائي لجميع القوات الأجنبية.
لكن الدعوات لانسحاب قوات التحالف كانت موجودة منذ سنوات، حيث صوت البرلمان في عام 2020 لصالح خروجها بعد اغتيال نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس وقائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، قرب مطار بغداد.
المصدر: صحيفة العالم الجديد
أقرأ ايضاً
- السياسيون يتبارون بـ"التسريبات".. والحكومة تشكو "الاستهداف"
- تـخصص لها اكثر من تريليوني دينار :ماهي الـ (37) مشروع التي خصصتها الحكومة الاتحادية لمحافظة كربلاء؟
- البرلمان "غاضب" والحكومة صامتة.. من يوقف الزحف التركي؟