جاء بيان مكتب المرجع الدينيّ الأعلى سماحة السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظلّه الوارف)، إثر جرائم الكيان الغاصب التي استهدفت سكان قطاع غزة المحاصر، متفرّداً بكلمات ذات تأثير مدوّي لغوياً وسياسياً في ظلّ صمتٍ عالمي، إزاء الإبادة الجماعية التي ترتكب في فلسطين.
يقول الدكتور إحسان التميمي "تظهر في الخطابات التاريخية على نحوٍ مباشر أو غير مباشر حكمةُ مرسل الخطاب، وحنكته، في استقراء المشهد السياسي والاجتماعي، وأكثر الخطابات التي تحمل صبغة تاريخية مؤثرة وفاعلة، هي الخطابات التي تنحو منحى الدقة على الصعيدين: (المستوى الاختياري "الاستبدالي" أو العمودي للألفاظ)، فضلاً عن المستوى التوزيعي (التركيبي) أو الأفقي؛ ولا سيما في الخطابات المصيرية المهمّة التي تحدّد وجود الأمة، أو موتها، وعند تتبّع الخط العام لخطابات المرجع الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظلّه الوارف)، نلحظ أن هذا المنحى يبدو واضحاً، وهذا يشير إلى الوعي الكامل بأنّ المشهد العالمي والمحلي، هو عبارة عن مساحات ملغومة بالفتن، والحرب هي حرب اللغة، لأنّ اللغة تحمل دلالات قد يجري تحريفها وتوجيهها في جهة مضادّة لما يصبو إليه الخطاب".
وعن طوفان الأقصى الذي جاء رداً على انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي المغتصب، واستفزازاته المستمرة للشعب الفلسطيني في قطاع غزة؛ يبين التميمي أن "هناك حكايات ومواقف بين متخاذل، ومحايد متفرّج (صامت)، وفي خضم هذه المواقف المتناقضة والمتشظية، والوجلة، في الخطاب السياسي والإعلامي العربي، مع تعاضد الإعلام الغربي مع حكومة الاحتلال الإسرائيلي وتبرير هجماتها، يأتي بيان المرجع الأعلى السيد السيستاني ليكسر جمود الخطابات التي ارتأت أن تلتزم الصمت، أو الحياد".
ويضيف "إُصدر البيان يوم الأربعاء 11/ 10/ 2023م، ويتصدر ديباجته النّص: (يتعرّض قطاع غزّة في هذه الأيام لقصف متواصل وهجمات مكثّفة قلّ نظيرها، وقد أسفر حتى هذا الوقت عن سقوط أكثر من ستة آلاف من المدنيين الأبرياء بين شهيد وجريح، وتسبّب في تهجير أعداد كبيرة منهم عن منازلهم، وتدمير مناطق سكنية واسعة، ويستهدف القصف مختلف المناطق حتّى لم يعد هناك مكان آمن يأوي إليه الناس)، والملاحظ على النصّ المقتطع من البيان ابتداؤه بفعل المضارع (يتعرّض) لأنه يعلم الخصيصة التي يتضمّنها الفعل: فهو حدث مقترن بزمن، وهذا الحدث يذكّرنا بالاستعمال القرآني الدقيق في قوله تعالى على لسان حال هابيل في سورة المائدة: (لئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)، فقد جعل لقابيل خصيصة الفعل الإجرامي (بسطت) وهو فعل مقترن بزمن، أمّا (باسط) فهي سمة هابيل الذي ينأى عن القتل ولهذا استعمل صيغة اسم الفاعل، ونعلم أن الاسم من علاماته الصفة الثبوتية، ولهذا الثبات على عدم القتل هو تحقيق للسلام. ولهذا اختير الفعل المضارع (يتعرّض)، للسمة التي تشير إلى الحدث المقترن بالفعل الإجرامي، فضلاً عن أنه اختير، بدلاً من الماضي، لأن الفعل المضارع أكثر دلالة على الماضي والحاضر ناهيك عن المستقبل"، مبيناً أن "هذا يشير إلى أن البيان مواكب للحدث وقارئ جيد للمشهد، فالتعرّض للقصف والهجمات المكثفة مستمر وفي تصاعد، وأسفر عن سقوط ستة آلاف من المدنيين الضحايا، ولهذا يشير الفعل المضارع ( يتعرض) إلى استمرار هذا الحدث المروّع، ونلحظ في النصّ المقتطع توالي الأفعال وضمور الأسماء أو الصياغات الاسمية فيه (تسبّب، يستهدف، لم يعد، يأوي)، إن هذا الاحتدام في الأفعال يشير إلى سردية الخطاب التي تستند إلى الواقع الإجرامي الفعلي".
ويتابع التميمي أن "البيان يخبرنا أيضاً عن آلياتٍ إجرامية أُخَر، ليؤكّد تاريخيته التوثيقية بوصفه مدوّنة تحمل ضمير الأمة الإسلامي والإنساني (وفي الوقت نفسه يفرض جيش الاحتلال حصاراً خانقاً على القطاع، شمل في الآونة الأخيرة حتى الماء والغذاء والدواء، وغيرها من ضروريات الحياة، ملحِقاً بذلك أكبر الأذى بالأهالي الذين لا حول لهم ولا قوّة، وكأنّه يريد بذلك الانتقام منهم وتعويض خسارته المدوّية وفشله الكبير في المواجهات الأخيرة)، كذلك في النصّ المقتطع الثاني يتصدّر الفقرة الفعل المضارع (يفرض)، وهو تأكيد على آنية الحدث مع محمولاته الزمنية الماضية، وما يعد به من كوارث في المستقبل، ففي المستوى الاختياري لم يختر لفظة (فرض)، لأن هذا الفعل بمدلولاته الماضية يشير إلى انتهاء الحدث، ومن ثم يكون محبطاً لهمم الاستنصار والاستنقاذ للشعب الفلسطيني في غزّة، فالحصار يفرض عليهم من أجل قتلهم والتنكيل بهم، وفي نهاية النصّ المقتطع، يستند الخطاب إلى الصيغة التعليلية للفعل الإجرامي، إذ جاء انتقاماً لفشل الاحتلال الإسرائيلي، وتعويضاً لخسارته المدوّية في المواجهات الأخيرة".
ويكمل التميمي بالقول "لا يحيد البيان عن منحاه في ترسيم خطابه الذي يسعى إلى ترسيخ الروح الإنسانية واستنكار الجرائم التبريرية المساندة للانتهاك الجمعي الذي طال الأبرياء من أطفال ونساء ورجال؛ يصرّح البيان: (ويجري هذا بمرأى ومسمع العالم كلّه ولا رادع ولا مانع، بل هناك من يساند هذه الأعمال الإجرامية ويبرّرها بذريعة الدفاع عن النفس!)، فاستمرّ البيان بتوظيف الصيغة المضارعة، وهي الصيغة الشبيهة بالأسماء، فمعنى مضارعتها أي مشابهتها للأسماء، فصيغة (يجري) بمعنى ارتباطه بالثبوت والاستمرار وهو فعل له إرهاصات ماضية"، مؤكداً أن "هذا المقطع إدانة واضحة للرأي العام العالمي، وهي جهاد في حضرة الكثرة، وهي أعظم الجهاد كما عبّر عنها الرسول الأعظم محمد(صلّى الله عليه وآله وسلم) في حديث بمسند أحمد (أنَّ رجلاً سألَ النبيَّ صلّى الله عليه [وآله] وسلم وقد وضعَ رجلَه في الغرزِ: أيُّ الجهادِ أفضلُ؟ قال "كلمةُ حقٍّ عند سلطانٍ جائرٍ")، والسلطان غير محدّد بفرد وإنّما بالمنظومات، والوعي الجمعي، تشير الكتب السماوية ومن ضمنها القرآن الكريم إلى أن الكثرة معيار الظلم، كما في قوله تعالى بسورة الزخرف: (لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ)، فالكثرة في أعظم المواقف لا تدلّ على الحقّ، ولهذا قال الإمام علي(عليه السلام): أيّها الناس لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلّة أهله، فإن الناس اجتمعوا على مائدة شبعها قصير، وجوعها طويل)، ثم ينتهي النصّ المقتطع في ملء فجوة المتلقّي التي يفترضها نصّ البيان، وهي السؤال: أيُعقل أن يجتمع الرأي العام العالمي على الباطل هكذا؟، ونصّه: (بل هناك من يساند هذه الأعمال الإجرامية ويبرّرها بذريعة الدفاع عن النفس!)". وبحسب التميمي "انتقل الخطاب هنا من سمت صمت الضمير الإنساني العالمي، إلى سمت مَنْ يساند هذه الأعمال الإجرامية، واستعمل الخطاب الفعل المضارع أيضاً و(يبررها)، لكي يوازن بين الفعل الإجرامي والفعل الإسنادي، ليشير على نحوٍ غير مباشر إلى أن الفعلين متطابقين من جهة الإجرام، فالتبرير كناية عن العلم بالشيء، وتحريف مساره بذريعة الدفاع عن النفس".
وينتهي خطاب البيان بتحوّله من هيمنة الأفعال المضارعة التي تبين دلالات الأفعال الإجرامية؛ إلى هيمنة الأسماء التي تشير على نحوٍ غير مباشر إلى الحلّ الذي يجب أن يسعى إليه جميع الأطراف، من أجل حقن دماء الأبرياء من الشعب الفلسطيني المظلوم خاصّة؛ بدعوة الرأي العام العالمي إلى السلام بإزالة الاحتلال الإسرائيلي من الأراضي الفلسطينية، وفقاً للتميمي الذي يوضح أن نصّ البيان يشير إلى ذلك: (إن العالم كلّه مدعوّ للوقوف في وجه هذا التوحّش الفظيع، ومنع تمادي قوات الاحتلال عن تنفيذ مخططاته، لإلحاق مزيد من الأذى بالشعب الفلسطيني المظلوم، إنّ إنهاء مأساة هذا الشعب الكريم المستمرّة منذ سبعة عقود بنيله لحقوقه المشروعة، وإزالة الاحتلال عن أراضيه المغتصبة، هو السبيل الوحيد لإحلال الأمن والسلام في هذه المنطقة، ومن دون ذلك فستستمرّ مقاومة المعتدين وتبقى دوّامة العنف تحصد مزيداً من الأرواح البريئة، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم)، والملاحظ على النصّ المقتطع وهو نهاية البيان، أنه بدأ بـ(إنّ) التوكيدية، ولفظة (مدعوّ) وهم اسم، ولم يستعمل الخطاب (ندعو)، فهذه الدعوة آنية تنتهي بانتهاء الحدث، لكن لفظة (العالم مدعوّ) الذي تسبقه أداة التوكيد تشير إلى أن الدعوة سابقة للحدث ومستشرفة للمستقبل، فهي دعوة في أحوال السلم والحرب، وتزداد الدعوة ضرورة في الحرب للوقوف بوجه هذا التوحّش الفظيع تجاه الشعب الفلسطيني المظلوم، ليلحق به مزيداً من الأذى".
يزيد التميمي بالقول إن "دعوة المرجع الأعلى ليست حبراً على ورق وإنّما لها مصاديق، وتجارب، ولها أثرها الفاعل في الآخر، وهذا واضح من خلال التجارب في ساحة الميدان، إذ تحوّلت الكلمات إلى سلاحٍ قاصم، قصم ظهور الغزاة الدواعش في العراق، وإن الأمن والسلام لا يتحقق إلّا بسبيله الوحيد وهو إزالة الاحتلال الإسرائيلي الغاصب وإرجاع الحقّ إلى أهله"، لافتاً إلى أنه "في الفقرة الأخيرة يتحوّل الخطاب إلى صيغة (الفعل)، ففي حال عدم الاستجابة إلى هذا الحلّ استعمل الخطاب الفعل، (فستستمرّ) مقاومة المعتدين، وهو أمر بديهي فالصراع بين المقاومين وبين العدوّ صراع وجود لا صراع حدود، وهي دعوة نبيلة لحقن دماء الأبرياء. يختم بيان المرجع السيد علي السيستاني بقوله: (ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم)، وهي إشارة خفية أن صاحب الحول والقوّة الحقيقي في الأرض هو الله، وهو الأقوى من الكيان الغاصب وغيره، وستؤول الأمور إلى مشيئته وإرادته وقوّته، وكذلك تشير إلى قوّة البلاء الذي يتعرّض له الشعب الفلسطيني المظلوم في أرضه وسمائه".
أقرأ ايضاً
- المرجعية الدينية العليا والعتبة الحسينية تقدّمان تجربةً رائدةً في مجال إسكان الفقراء مجاناً
- قصة "حسوني" طفل انقذته يد المرجعية الدينية الرحيمة من الضياع(فيديو)
- "حسوني" رمي في الطرقات بجروحه: يد المرجعية الدينية الرحمية تنقذ طفلا من الضياع وتعالجه من التوحد