بقلم: نزار حيدر
قَولُ الحُسينِ السِّبط (ع) {ومَن ردَّ عليَّ هذا أَصبِر}.
قاعدةُ [أَن تقدرَ أَو فاصبِر] هيَ واحدةٌ من قواعدِ العملِ الرِّسالي التي نتعلَّمها من عاشُوراء، كانَ قد أَسَّس لها رسولُ الله (ص) في صُلح الحديبيَّة عندما تنازلَ حتَّى عن صفةِ الوحي كرسولٍ مبعوثٍ من ربِّ العالمينَ، لترحيلَ موعدِ الفتحِ إِلى الوقتِ المعلومِ عندما نزلت الآية الكريمة {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا}.
فليسَ بإِمكانِ المرءِ أَن يُحقِّقَ كُلَّ ما يصبو إِليهِ في كُلِّ الأَوقات وعندما يُريدُ ويُقرِّرُ، فللغيبِ رأيٌ وللزَّمنِ حُصَّةٌ وللإِرادةِ حضُورٌ لا يُمكنُ إِلغاءهُ.
يقولُ تعالى {وَجَاءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ۚ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ}.
وهي ذات القاعِدة التي التزمَ بها أَخوهُ وابنُ عمِّهِ وخليفتهُ الإِمام المُفترض الطَّاعة أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) بقولهِ {أَمَا واللَّه لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلَانٌ وإِنَّه لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ ولَا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ، فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً وطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً وطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ ويَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ ويَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّه.
فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى، فَصَبَرْتُ وفِي الْعَيْنِ قَذًى وفِي الْحَلْقِ شَجًا أَرَى تُرَاثِي نَهْباً}.
ولم يشُذَّ الحسَنان السِّبطان (ع) رَيحانتا جدِّهِما رسولُ الله (ص) عن هذهِ القاعدة الرساليَّة الإِستراتيجيَّة.
والإِلتزامُ بها اليَوم يحتاجُ مِنَّا أَن نعيَها ونفهمَها ونعرِفَ كُنهها حقَّ المعرفةَ، وبغيرِ هذهِ الحالةِ ستكُونُ وبالاً علينا وعلى مشاريعنا وآمالنا وطموحاتِنا، إِذ ترانا نقدم وقتَ الصَّبر ونصبِرَ وقتَ الإِقدامِ، بمعنى أَنَّ الأُمورَ ستنقلبُ رأساً على عقِب، وسيكونُ الصَّبرُ طريقاً للتهرُّبِ من المسؤُوليَّة وقاعدةً لشرعنةِ التَّكاسُل والتَّثاقُل وتركِ مواجهةِ التحدِّياتِ بكُلِّ أَشكالِها، على قاعدةِ قولِ الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} ووصفِ أَميرِ المُؤمنينَ (ع) لأَصحابهِ {مُنِيتُ بِمَنْ لَا يُطِيعُ إِذَا أَمَرْتُ ولَا يُجِيبُ إِذَا دَعَوْتُ، لَا أَبَا لَكُمْ! مَا تَنْتَظِرُونَ بِنَصْرِكُمْ رَبَّكُمْ؟ أَمَا دِينٌ يَجْمَعُكُمْ ولَا حَمِيَّةَ تُحْمِشُكُمْ! أَقُومُ فِيكُمْ مُسْتَصْرِخاً وأُنَادِيكُمْ مُتَغَوِّثاً فَلَا تَسْمَعُونَ لِي قَوْلًا ولَا تُطِيعُونَ لِي أَمْراً، حَتَّى تَكَشَّفَ الأُمُورُ عَنْ عَوَاقِبِ الْمَسَاءَةِ، فَمَا يُدْرَكُ بِكُمْ ثَارٌ ولَا يُبْلَغُ بِكُمْ مَرَامٌ، دَعَوْتُكُمْ إِلَى نَصْرِ إِخْوَانِكُمْ فَجَرْجَرْتُمْ جَرْجَرَةَ الْجَمَلِ الأَسَرِّ وتَثَاقَلْتُمْ تَثَاقُلَ النِّضْوِ الأَدْبَرِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ مِنْكُمْ جُنَيْدٌ مُتَذَائِبٌ ضَعِيفٌ (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وهُمْ يَنْظُرُونَ)}.
١/ فالصبرُ يكونُ جميلاً ومحمُوداً بعدَ أَن يستفرغَ المرءُ كُلَّ طاقتهِ وكاملَ جُهدهِ وأَفضلَ مساعيهِ، فيُحاولُ بجدٍّ ويسعى بعزيمةٍ بالقَولِ والفعلِ والمشوَرةِ وبِكلِّ ما يملُك من طاقةٍ ذهنيَّةٍ وحيلةٍ عقليَّةٍ وتدبيرٍ مُركَّز قبلَ أَن يصلَ إِلى النَّتيجةِ التي تقودَهُ للقناعةِ بأَنَّ الأَمرَ لا مفرَّ منهُ فلابُدَّ من التسلُّحِ بالصَّبرِ.
إِنَّ حُسنَ الإِختيارِ بعدَ دراسةِ الظُّروفِ وإِلقاءِ الحُجَّة الواضِحة والنَّاصعة هوَ المطلوبُ قبلَ اتِّخاذِ قرارِ الصَّبرِ المقصُودِ هُنا.
وبقراءةٍ مُتأَنِّيةٍ لقَولِ أَميرِ المُؤمنِينَ (ع) الذي يصفُ فيهِ الحال ومُفترق الطُّرق الذي وصلَ إِليهِ وقرارهُ في اختيارِ واحدٍ وتركِ الثَّاني، يُوضِّح معنى اختيارهِ الصَّبر بشكلٍ جليٍّ لا لبسَ فيهِ.
تعالُوا نقرأَ النصِّ التَّالي لتتَّضح عندنا الصُّورة بشَكلٍ أَفضل، يقولُ (ع) {إِنَّ اسْتِعْدَادِي لِحَرْبِ أَهْلِ الشَّامِ وجَرِيرٌ عِنْدَهُمْ إِغْلَاقٌ لِلشَّامِ وصَرْفٌ لأَهْلِهِ عَنْ خَيْرٍ إِنْ أَرَادُوه، ولَكِنْ قَدْ وَقَّتُّ لِجَرِيرٍ وَقْتاً لَا يُقِيمُ بَعْدَه إِلَّا مَخْدُوعاً أَوْ عَاصِياً، والرَّأْيُ عِنْدِي مَعَ الأَنَاةِ فَأَرْوِدُوا ولَا أَكْرَهُ لَكُمُ الإِعْدَادَ.
ولَقَدْ ضَرَبْتُ أَنْفَ هَذَا الأَمْرِ وعَيْنَه وقَلَّبْتُ ظَهْرَه وبَطْنَه فَلَمْ أَرَ لِي فِيه إِلَّا الْقِتَالَ أَوِ الْكُفْرَ بِمَا جَاءَ مُحَمَّدٌ (ص).
إِنَّه قَدْ كَانَ عَلَى الأُمَّةِ وَالٍ أَحْدَثَ أَحْدَاثاً وأَوْجَدَ النَّاسَ مَقَالًا فَقَالُوا ثُمَّ نَقَمُوا فَغَيَّرُوا}.
الكثيرُ منَّا يختارُ تركَ الواجبِ وتجاوزِ المسؤُوليَّة والتشبُّث بالصَّبرِ قبلَ أَن يبذلَ أَيَّ جُهدٍ للمُحاولةِ والتَّجربة، فعبارة [مَيفيد] تسكنُ بينَ شفتَيهِ كُلَّ الوقتِ، فتراكَ لا تقولُ لهُ شيئاً، فكرةً أَو رأياً أَو حلّاً، ورُبما قبلَ أَن تُنهي حديثكَ معهُ، إِلَّا وقفزَت من لسانهِ كلِمة [مَيفيد] وإِذا سأَلتهُ، هل حاولتَ وتبيَّنَ لكَ أَنَّهُ [مَيفيد] أَو جرَّبتَ مثلاً؟! يُجيبكَ بالقَولِ؛ لسنا بحاجةٍ إِلى كُلِّ ذلكَ فالأَمرُ واضحٌ [مَيفيد] فلماذا نُضيِّع وقتنا وجُهدنا؟!.
هذا النَّوعُ من النَّاس قرَّرَ سلفاً أَنَّ المسؤُوليَّة سقطت عنهُ فهو غَير مُستعِد لمُناقشةِ أَو الإِستماعِ إِلى أَيِّ شيءٍ قد يضعهُ وجهاً لوجهٍ معَ المسؤُوليَّة، ولذلكَ يُبادركَ دوماً بكلمةِ [مَيفيد] ليقطعَ عليكَ الطَّريق منذُ البِداية.
يقولُ عزَّ مِن قائلٍ {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ۙ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۖ} يعني [مَيفيد] الوعظ والإِرشاد والكلام فلماذا تُتعبون انقسكم في النصح والتذكير؟!.
أَمَّا قولُ الصَّابرينَ على المسؤُوليَّة الواعينَ لواجباتهِم فهوَ {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.
فهيَ أَوَّلاً مسؤُوليَّة عاهدنا الله تعالى على أَن نتحمَّلها في المُجتمعِ {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} وهي محاولةٌ قد تنفع ولو بنسبةِ [١٪] فلماذا لا نُجرِّب ونسعى ونُحاول؟!.
٢/ وإِنَّ ما قبلَ الصَّبر هو الحُجَّة الشرعيَّة والعقليَّة والمنطقيَّة والواقعيَّة التي يبذلها المرءُ حتَّى لا يتذرَّعَ أَحدٌ غداً بالجهلِ وعدمِ المعرفةِ.
والحجَّةُ منهجٌ قرآنيٌّ مُهمٌّ جدّاً {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ}.
ولقد علَّمنا القرآن الكريم ان لا نتهرَّب من مُحاججةٍ لنلقي بها الحُجَّة الدَّامغة على الآخر وذلكَ في قصَّة المُباهلة بقولهِ تعالى {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}.
لماذا؟! {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ۖ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}.
والآن، وتأسيساً على ذلكَ، هل ترى أَنَّ لأَحدٍ منهُم حُجَّةً وعُذراً عندما خذلَ الحُسين السِّبط (ع) أَو عندما تركَ نُصرتهُ أَو تحجَّج بأَنَّ {بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ}؟! وهوَ (ع) الذي قالَ لهُم {فأَنا الحُسينُ بنُ علي وابنُ فاطِمة بنتِ رسولِ الله (ص) نفسِي معَ أَنفُسِكُم وأَهلي معَ أَهلِيكُم، فلَكُم فيَّ أُسوة}.
وفي نِهايةِ المطاف يتجلَّى الصَّبرُ وتتلخَّص فلسفتهُ بأَحدِ أَعظمِ حِكَمِ أَميرِ المُؤمنِينَ (ع) التي يقولُ فيها {الصَّبْرُ صَبْرَانِ صَبْرٌ عَلَى مَا تَكْرَه وصَبْرٌ عَمَّا تُحِبُّ} وهيَ [الحِكمةُ] التي أَشار إِليها القُرآن الكريم بقولهِ {وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}.
أقرأ ايضاً
- ماذا بعد لبنان / الجزء الأخير
- التكتيكات الإيرانيّة تُربِك منظومة الدفاعات الصهيو-أميركيّة
- مراقبة المكالمات في الأجهزة النقالة بين حماية الأمن الشخصي والضرورة الإجرائية - الجزء الأول