اشتد الغضب ببشرى أمام البوابة الخارجية لمديرة جوازات الرصافة في العاصمة العراقية بغداد، وأخذت تلوح برزمة أوراق كانت بحوزتها وتصرخ: "مضى شهر نيسان وسينتهي أيار وأنا لم أحصل على جواز السفر، وفي كل مرة هناك شيء جديد علي القيام به أو ورقة ما علي أن أضيفها إلى ملفي".
بشرى، أو أم نور، كما طلبت ان ندعوها، ترغب بالسفر مع شقيقها إلى الهند، لعلاج الأخير من مرض بعينيه، لكنها ما زالت تنتظر صدور جوازها، متهمة الموظفين بتعمد وضع عراقيل لتعطيل الإجراءات بهدف ابتزازها مالياً.
تلقي بشرى نظرة على بناية الدائرة خلفها ثم تتابع وهي ترتعش: "سأحاول إيجاد شخص يكمل لي معاملتي وأدفع له، ماذا أفعل؟ أريد أن أحصل على الجواز، إنه مجرد جواز ثلاثة أرباع دول العالم لا تعترف به".
قالت ذلك بصوت مرتفع، فتحلق حولها عدد من المراجعين. قال أحدهم: "موظفو الدائرة ينفذون التعليمات". بينما ردد آخر: "المال يقلص الوقت والإجراءات"، قاصداً المبالغ التي تدفع للحصول على جواز السفر بسرعة، و الرشاوى التي تدفع لمعقبي المعاملات لإنجاز الأوراق من دون عوائق.
تفاعلت السيدة بحذر مع ردود الفعل حولها، قبل أن يرتفع صوتها مجدداً: "أموال وإجراءات فقط على الناس أمثالي، وهنالك آخرون على رؤوسهم ريش، يأخذون بغمضة عين جوازاً دبلوماسياً !"، وفقاً لمنصة "درج".
امتياز "الجواز الأحمر"
يطلق العراقيون على الجواز الدبلوماسي اسم (الجواز الأحمر) بسبب لون غلافه الخارجي، ويرمز عادة إلى السطوة والنفوذ. يمُنح هذا الجواز بحسب نواب بالبرلمان العراقي لعشرات آلاف الأشخاص في السنوات القليلة الماضية، وتعده نخب اكاديمية وثقافية، فضيحة تهدد هيبة الدولة، هو واحد من بين أربعة أنواع من الجوازات تمنح في العراق بموجب نظام جوازات السفر رقم (2) لسنة 2011، وقانون جوازات السفر رقم (32) لسنة 2015، والثلاثة الأخرى هي (خاص، خدمة، عادي).
تتعالى الأصوات منذ سنوات مطالبة وزارة الخارجية بإنهاء ظاهرة منح الجوازات الدبلوماسية لآلاف ممن لا يستحقونها، ومراجعة الوضع القانوني لكل من يحملها، وإلغاء امتياز حملها مدى الحياة، واقتصار صلاحيتها على مدة شغل الوظيفة. لكن الضغوط التي تتعرض لها الوزارة، تفاقم الوضع، ليرتفع عدد حاملي تلك الجوازات إلى 32 ألفاً خلال أربع سنوات، من دون الأخذ في الاعتبار تداعيات ذلك على السمعة الدبلوماسية للعراق.
أبرز من أثار قضية منح الجواز الدبلوماسي بنحو مبالغ فيه ولأشخاص غير مستحقين قانوناً، النائبة سروة عبد الواحد، عضوة في لجنة النزاهة النيابية، طالبت وزارة الخارجية في 3 تشرين الثاني 2022 بموجب كتاب رقمه (100)، بكشف مفصل عن الجوازات الدبلوماسية والخاصة وجوازات الخدمة التي منحتها والجهات التي طلبتها والسند القانوني الذي صرفت تلك الجوازات بموجبه.
بعد تجاهل الوزارة لطلبها ومرور أسبوعين على ذلك، وهي المدة المحددة بموجب المادة (15) من قانون مجلس النواب وتشكيلاته رقم (13) لسنة 2018 لإجابة الجهات الرسمية لطلبات يقدمها برلمانيون، انضم إليها النائب هادي السلامي، وتحركا باتجاه الادعاء العام وقدما شكوى ضد وزير الخارجية فؤاد حسين.
فما كان من رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني، إلا أن وجه في كانون الأول 2022، وزارة الخارجية بمراجعة الوضع القانوني لكل من يحمل جواز سفر دبلوماسي، وسحبه من الأشخاص الذين لا يستحقونه.
لم يتأكد لنا بعد مرور نحو ستة أشهر من ذلك التوجيه، إن كان الجواز الدبلوماسي قد سحب بالفعل من بعض الذين لا يمتلكون صفة قانونية تؤهلهم لحمله، إذ لم يصدر عن رئاسة الوزراء أو وزارة الخارجية ما يفيد بذلك.
أكدت وزارة الداخلية العراقية، عبر مدير شؤون الجوازات التابعة لها العميد الحقوقي ماجد أحمد، إصدارها 4000 إلى 4200 جواز سفر دبلوماسي منذ تشرين الأول 2021 وأنها مُنحت لأعضاء في مجلس النواب في دورات سابقة وحالية "والاستثناءات الممنوحة حصراً من جانب وزير الخارجية وفقاً للقانون" بحسب ما ذكر.
مؤثرون دبلوماسيون
أثار تصريح مدير شؤون الجوازات ردود فعل غاضبة على المستوى الشعبي، خصوصاً بعد تداول معلومات أفادت بحصول بعض مشاهير وسائل التواصل الاجتماعي على الجواز الدبلوماسي، فضلاً عن شيوخ عشائر وشخصيات لا ينص القانون على منح هكذا نوع من الجوازات لهم.
يحدث ذلك فيما يجد الفرد العراقي الذي لا يحمل صفة معنوية، صعوبة كبيرة في الحصول على الجواز العادي، الذي يحتل وفقاً لمؤشر Guide لسنة 2023 المرتبة 105 على مستوى العالم، إذ يسمح لحامله بالدخول فقط إلى 30 دولة دون تأشيرة سفر (فيزا)، ويتعين عليه الحصول على تأشيرة من 161 دولة.
يقول الأكاديمي محمد علي إنه يُحرم أحياناً من المشاركة في مؤتمرات علمية دولية لصعوبة حصوله على تأشيرة السفر، بسبب ما يصفها المكانة المتدنية للجواز العراقي، في حين يحصل آلاف من غير المؤهلين ولمجرد كونهم أقارب مسؤولين على جوازات دبلوماسية.
يتابع: "انه مظهر آخر للفساد، الفساد الذي بات يشمل كل موضع سياسي، واداري، ومالي، وحتى علمي". يصمت للحظات ثم يكمل "هؤلاء يتسببون أحياناً بفضائح للبلد بسبب سوء تصرفهم… ثم يسأل البعض لماذا مكانة الجواز العراقي وبالتالي الفرد العراقي وصلت الى هذا الوضع المزري؟".
رداً من وزارة الداخلية على الانتقادات الموجهة إليها بشأن إصدار تلك الجوازات، ذكرت في بيان أواخر 2022 أنها "جهة تنفيذية فقط وتعمل وفقاً للأنظمة أو التعليمات التي نصت عليها القوانين النافذة المتعلقة بإصدار الجوازات الاعتيادية والدبلوماسية".
وأوضح البيان أن مديرية الأحوال المدنية والجوازات والإقامة "تقوم بتنفيذ القوانين بعد أن تصلها مخاطبات رسمية من قبل الجهات الحكومية ذات العلاقة، بخاصة بما يتعلق بإصدار الجوازات الدبلوماسية وغيرها من المواضيع التي تصل بشكل رسمي". رمت الداخلية بذلك الكرة وبنحو غير مباشر في ملعب وزارة الخارجية، لأنها الجهة المخولة بموجب القانون في منح هذا النوع من الجوازات، وهي التي تخاطب وزارة الداخلية لمنحها.
وتحدثت تقارير غير رسمية عن منح وزارة الخارجية في الحكومات العراقية المتعاقبة منذ سقوط النظام العراقي السابق في 2003، أكثر من 45 ألف جواز دبلوماسي، وعدته باباً من أبواب الفساد والمحسوبية المفتوحة في البلاد.
كشفت لجنة النزاهة النيابية، عبرة النائب سروة عبد الواحد في مطلع أيار 2023 عن إصدار وزارة الخارجية خلال السنوات الأربع المنصرمة 32 ألف جواز دبلوماسي، 10 آلاف منها لأشخاص من خارج السلك الدبلوماسي وليسوا موظفين في وزارة الخارجية.
أكدت عبد الواحد أنها رفعت دعوى قضائية أمام محكمة الكرخ في العاصمة بغداد ضد الوزارة بخصوص منح الجوازات الدبلوماسية لأشخاص لا يستحقونها بموجب القانون، وأعلنت عن توجه لاستضافة وزير الخارجية فؤاد حسين في مجلس النواب لمناقشة الملف. وقالت مستغربة: "أمر غير معقول أن نمتلك كل هذا العدد من الموظفين الدبلوماسيين!".
ونقلت وسائل إعلام عن النائب سروة، توضيحها بشأن من تعني بهم غير المستحقين للجواز الدبلوماسي وحصلوا عليه: "بعض من هذه الجوازات الدبلوماسية تمنح لـموديلات في برنامج تيك توك أو لعارضات الأزياء وغيرهم". أي أنهم لا يملكون سنداً قانونياً لمنحهم هذا الجواز وما يتضمنه من امتيازات.
وعادت تسأل خلال مقابلة معها في قناة العهد الفضائية: "لمن تمنح وزارة الخارجية هذا الجواز، وعلى أي أساس؟ أنا عضوة مجلس نواب، ورئيسة حزب يمثله تسعة نواب وليس لدي جواز دبلوماسي، ولن أطالب به".
سخاء في الإصدار بموجب القانون
من يحق له في العراق حمل الجواز الدبلوماسي؟ يجيب عن هذا السؤال الباحث المتخصص في مجال القانون المدني عبد السلام غازي، مشيراً إلى أن نظام جوازات السفر رقم (2) لسنة2011 الصادر بموجب قرار مجلس الوزراء رقم (88) عالج هذا ضمن المادة 17 التي تشمل موظفي الدولة، لكنه يشير إلى بعض جوانب القانون الإشكاليّة إذ يقول، "المادة 17 من القانون نصت على منح الجواز الدبلوماسي لأزواج وأولاد كل الموظفين المذكورين في النص أو من يعيلونهم قانوناً من المقيمين معهم، وقد يكون هؤلاء هم الذين قصدتهم لجنة النزاهة البرلمانية بقولها إنهم لا يستحقون الجواز الدبلوماسي، لكونهم لا يشغلون الوظائف التي تخولهم حمله، لكن القانون يمنحهم هذا الحق".
يتابع: "من الطبيعي أن يمنح العراق عشرات الآلاف من الجوازات الدبلوماسيات، فمنذ 2003، كم دورة برلمانية مرت، وكم حكومة وموظفين في الخارجية؟ إنهم قطعاً بالآلاف، كما أن نظام البلاد قائم على المحاصصة وكل جهة تريد أن تستحوذ على حصتها من كل شيء".
أما أستاذ العلاقات الدولية الإستراتيجية في جامعة الموصل، د. طارق محمد ذنون، فيربط قيمة الجواز الدبلوماسي ومكانته دولياً بندرته، ويعني بذلك أنه كلما قلت أعداد الجوازات الدبلوماسية الممنوحة، زادت قيمتها وبالعكس.
ويصف منح الكثير من هذا النوع من الجوازات في العراق بأنه: "عامل ضعف لهيبة الجواز ذاته وهذا ما يجعله باستمرار في ترتيب مُتدنٍ في الإحصاءات"، مطالباً "باتخاذ إجراءات واقعية ومعالجات قانونية تساهم في رفع هيبته في المحافل الدولية".
يعتقد الحقوقي د. محمد يونس حسان، بأن القانون العراقي فتح مجالاً واسعاً لمنح الجواز الدبلوماسي، وتفاءل بإثارة الموضوع على الرأي العام، لأنه قد يفضي إلى تعديلات تشريعية لتحديد منحه بنطاق ضيق، وفقاً لما ذكر. ويقول: "الجواز الدبلوماسي هو لتسهيل حركة حامله الذي يفترض أن يكون في رحلة عمل ومهمة حكومية رسمية وليس في رحلة ترفيهية، يرافقه فيها أفراد أسرته والمقيمون معه وكلهم يحملون الجواز ذاته؟!".
لا يستبعد د. محمد أن يستغل البعض من حاملي الجواز الدبلوماسي كل هذه الامتيازات "لتهريب العملة أو البضائع الثمينة أو أي شيء آخر للمصلحة الشخصية، وليس للمصلحة العامة".
أقرأ ايضاً
- لـ"تطوير المهارات".. إيفاد أعضاء مجلس بغداد إلى وجهات سياحية عالمية
- القائم بالاعمال السفارة العراقية في سوريا: جوازات مرور وسمات دخول واقامات قدمها العراق الى مواطنيه وضيوفه
- تسجيل الهواتف النقالة في العراق.. فوائد اقتصادية ومخاطر أمنية !