حجم النص
بقلم: د. أحمد العلياوي
لكل عاملٍ من عمله نصيب من الذكر المحمود، يسعى له وهو يباشرُ الفعل الحسن، فذلك مما اعتاد عليه الناس منذ قديم العصور، وهم يتناقلون محامد الكرام، بما يشجِّع على فعل الخيرات حين يشيعُ مدحُ المحاسن وذمُّ المساوئ.
وبين قصص الكرام، تجد تلك السمعة المشرقة، وهم يبذلون المال والوقت بشجاعة قلَّ مثيلها، لأن الكرم شجاعةٌ لايقدر عليها إلا القلَّة، من الكبار عزماً، والأخيار عملاً، ومَن لهم سابقة أصل رفيع، وجذر نبل عميق، وتربية جود وارفة الظلال.
من هذا وغيره كان انتشار أخبار الكرماء عبر الدهور، من دوافع الإحسان البارزة، التي تعمر بها قيم البناء الروحي والاجتماعي للفرد والجماعة، فسيادة السمعة الحسنة، تضيف للإنسان شعوراً بالعزة، ومن حقه أن يجد لمعروفه صيتاً يُذاع، وجميلاً يُحفظ، وممدوحة تُورَث.
ولكن مايحدث في زيارة الأربعين -التي تستمر عشرين يوماً من العطاء الخارج عن المألوف- يبتكر نوعاً من الكرم الذي يصل إلى حد الكرم بالجاه والذكر نفسه، إذ تذيب طرقُ الوصول لكربلاء كل الأسماء، والألقاب، والسمات، والأعراق، والمذاهب، واللغات في اتجاه واحد، يجعل العراق مسكناً، ومأوى، ومضيفاً عامراً بالخيرات، فضلاً عن طيب المأكل والمشرب.
ومايزيد على تاريخ هذه السجية العربية الأصيلة، في استقبال الضيف، وحماية النزيل، هو أن المُقدِمين على التنافس في طريق الحسين، لاينتظرون أن يُعرفوا، وأنْ ينتشر خبرهم بين الدول، أو القبائل، بقدر عنايتهم بأنْ يكونوا خدماً عند صاحب الذكرى، وأنْ يلقى العملُ -بكل عظمته- قبولاً عند الحسين (ع).
لايرى الباذلون غير الإمام، ناظراً لفعالهم المحمودة، بل لايعنيهم غير رضاه، وهو الباذل الأكبر، الذي علَّمهم التضحية، بما توافر لديهم من مال ووقت، فتحمَّلوا وواصلوا الليل بالنهار، من دون أن يكون لهم دافعٌ غير ذلك الرضا والقرب، لحظة يمرُّ الزائرُ مخدوماً، ويمضي لأهله وبلاده، ويعود أصحابُ المواكب لبيوتهم مسرورين، ودموعهم نازلةٌ لفراق هذا الموسم الغزير منحاً الصعب تفسيرا.
وبعد الزيارة تُغلقُ الأبواب، وتسكنُ أنفاسُ الشوراع، بعد ضجيج طيب المرأى والمسمع، وتفيق المدنُ العراقية وكأنها كانت في حلم جميل مرَّ ليترك في ذاكرة العالم معنى العراق.
إن هذا المنحى من العطاء لاوجود إلا عند أهل المواكب، والهيئات، والسرادق، الذين يتابعون حتى تنسيم الهواء للزائرين، في ظل صيف العراق، الذي على الرغم من شدَّته إلا أنه لم يمنع القاصدين من اجتياز المسافات القصيَّة وطيِّ الكثير من الصعاب، إدراكاً للفتح الذي أشار له الحسينُ منذ أكثر من ألف عام.
المجهولون اليوم من سلالة الشيم والنُبل والنماء يرون في اختفاء الأسماء والعناوين شاهداً على الحبِّ والإخلاص، فأقصى شرف يناله الراغبُ منهم في السعي أنْ يُسمى خادم الحسين.
لقد بلغت الزيارة اليوم عدداً فاق التوقع، بعد أن تصاعد من عام إلى عام ، ليصل إلى 21 مليون و 198 ألف و640 زائراً من دول شتى، ووراء هذا البحر البشري المغرم بالحسين أمةٌ من السعداء، بالخدمة المشرِّفة، فهم على حدَّ وصف الإمام علي (ع): مجهولون في الأرض معرفون في السماء، ولاسيما رجال العتبات المقدسة بكربلاء والنجف ومَن تطوَّع خيراً من أبناء الانتماء لكربلاء روحاً وعقيدةً وكرامة.
مبارك لكل الذين وفدوا على العراق، فكان لهم وطناً، يعلِّم حبَّ أهل البيت، بما أوتي من رجال ونساء حملوا عطش الحسين ليكون رواءً للقاصدين إليه.
ومبارك لكل المجهولين الذين عادوا لبيوتهم مكلِّلين بنظرة الحسين جزيلة الشكر والأجر.