بقلم: حسين فرحان
كتبَ أحدُ الأصدقاءِ على صفحتِه الشخصية نبذةً عن البقيع، وطالبَ مع مَنْ طالبوا بحُرقةِ قلبٍ، وتمنّى أنْ يراها كما تستحقُّ صروحًا شامخةً تهوي إليها أفئدةُ العاشقين، فلم يتركْ لآلِ سعود ولا لمشيخةِ الوهابيةِ عذرًا في الهدمِ أو المنعِ أو طمسِ معالمِ هذه القبورِ الزاكية بحُجَجِ الشركِ المُستندةِ إلى الصحاحِ التي لا سندَ لها، والآياتِ التي طالتْ يدُ الأحقادِ بيانها منذُ أنْ ولدتْ حرفة تحريفِ المعنى تحتَ ظلالِ سقيفةِ المُخالفةِ الصريحة.
كتبَ الرجلُ ما كتبَ، فانبرى لنُصرتِه من شاطرَه الرأيَ فطالبَ بمثلِ ما طالبَ، وانتقدَ ذلك العدوانَ السافرَ على قبورِ أئمةِ الهدى، ولم يكنْ فيمن أدلى بدلوه -تعليقًا على هذا المنشور- من الوهابيةِ من يدخلُ في جدلٍ عقائدي أو يعترضُ على المطالبةِ بإعادةِ مقبرةِ البقيع –على أقلِّ التقديرات- كما كانتْ بنيانًا تعلوه القباب، فالوهابي في العادةِ لا يكونُ صديقًا للشيعي على صفحتِه الشخصية، وإنّما تراهُ في المجموعاتِ العامة أو مُتابعًا للصفحاتِ يتربّصُ بالمنشوراتِ ليُلقي بفسادِ مُعتقدِه عليها.
ما لاحظناه أنَّ بعضَ من دخلوا إلى خطِّ التعليقاتِ على منشورِ البقيع كانوا من أصدقاءِ هذا الصديقِ، وعلى ما يبدو أنّه لم يكنْ يعرفُهم جيّدًا، وإلا فالرجلُ حريصٌ على أنْ يُبعِدَ هذه المخلوقات عن حياتِه فضلًا عن واقعه الافتراضي، وهذا ما أعرفُه عنه.
لعلّك ستسألُ عن طبيعةِ المُداخلاتِ، ولعلّك ستسألُ عن طبيعةِ هذه المخلوقاتِ المُتطفِّلةِ على الموضوع!
سأجيبُك عن طبيعةِ هذه الطُفيلياتِ، وندعوها بالطُفيليات؛ لأنّها حقًّا كذلك، فهي تزجُّ بنفسِها فيما لا تعرفُ، فتقعُ في ورطةِ الجهلِ وادّعاءِ ما ليسَ لها، وهو أمرٌ يدعو للحرَجِ الشديد، وهي تدّعي المدنيةَ والتحرُّرَ دونَ أنْ تفهمَ هذا المعنى كما ينبغي، وتختنقُ لمجردِ تذكيرِها بانتمائها، وتصبُّ جامَ غضبِها على الدينِ فيما لو اقترنَ موضوعُ النقاشِ به أو لم يقترن، وهي التي تؤرِّقُها الزياراتُ والشعائرُ والمزاراتُ والمقاماتُ والمقابر!.
هذا التعريفُ بسنخِ هذه الكائناتِ التي يُحيطُ بعضُها بنا فتظهر حسيكةَ نفاقِه بمُجرّدِ تعارُضِ الدينِ مع الأغنيةِ التي يعشقُها أو الفكرةِ الهجينةِ التي يعتنقُها أو الرمزِ الذي يذوبُ به عشقًا دونَ مُشتركٍ بينهما سوى القبعةِ، وربما الغليون.
أمّا التعريفُ بما جاءَ في تعليقِ أحدِ هذه المخلوقاتِ على منشور (مقبرة البقيع) التي تناولها أحدُ الأصدقاء، فقد كان مليئًا –كالعادةِ- بجهلٍ مُركّبٍ لا يعدو كونه انفعالَ جاهلٍ قد عرّضَ عقلَه للاستخفافِ به مجانًا.. وقد اعتدنا على هذا النمطِ من السلوكِ المُتخلِّفِ من دُعاةِ التحرُّر.
كتبَ المُتحرِّر – وسأوردُ نصًّا بديلًا مُراعاةً للغةِ العرب- ما يلي: (إلى متى نبقى نبني قبورًا وننسى المكتبات، الكليات، دور الثقافة.. أينَ مدارسُ الموسيقى؟.. الجمال؟.. الرسم؟ (كافي نضحك على نفسنا)، أنا كشخصٍ، أرى أنّهم مُجرّدُ شخصياتٍ تاريخيةٍ وانتهى الموضوع".
بهذه الكلماتِ.. وهذا الرأي العبقري انتهى الموضوع! وبهذه الثقافةِ الدخيلةِ حسمَ الأمرَ ورُفعتِ الأقلامُ وجفتِ الصحف!
جوابٌ مليءٌ بالعُقَدِ النفسيةِ، وتعليقٌ ساذجٌ تستشفُّ منه أنَّ كاتبَه لم يقرأ عنوانَ غلافِ كتاب، ولم يفقهْ من حياتِه سوى قشرتِها الخارجيةِ ذات القبعةِ المستوردة.
ومشكلةُ هؤلاءِ هي تفاعلُهم مع القشورِ، والتزامُهم بالشكليات، وحفظُهم لبعضِ المُصطلحات وتداولُها دونَ إدراك، فالمهمُّ لديهم هو تداولُها في أجواءٍ دخانيةٍ على أنغامِ موميائاتِ الطربِ الأصيلِ في الزمنِ الجميل.
يا هذا.. دعْنا نُجيبُك عن سؤالك الذي حيّرك واقضَّ مضجعَك، وذرفتَ فيه دمعَ الحرصِ على المكتباتِ والكُلياتِ ودورِ الثقافة ومدارسِ الموسيقى..
من قالَ لك: إنّ بناءَ القبورِ أو تعاهدها بالترميمِ والصيانةِ والإعمارِ، أو زيارتها والمكث عندها يتعارضُ مع ما ذكرت؟..
وكأنّك تُريدُ أنْ تقولَ عبارتَك الشهيرة: (الدينُ أفيونُ الشعوب) ولكن بطريقةٍ أخرى، بل أنتَ مُصرٌّ على أنَّ الدينَ وكُلَّ ما يتعلّقُ به هو من الأفيونِ الذي لم تحتج عليه –في حقيقته- كاحتجاجِك على الممارساتِ الدينية!..
وقد عهدنا أسلوبَكم هذا الذي تحاولون فيه تسليطَ الضوءِ على هذا الدّين وهذه المُمارساتِ الدّينيةِ في أوطانكم ومُجتمعاتِكم، وكأنَّ العالمَ المُتحضِّرَ الذي تحاولون الانتماءَ إليه قد خلا منها، أو كأنَّ الدينَ الذي تخجلون منه غيرُ موجودٍ إلا في بلادكم!
وهي حيلةٌ لا تنطلي إلا على المُراهقين فكريًا ضمنَ دائرةِ اهتمامِكم، ولن تجدَ لها صدى إلا في أوساطكم.
وبالعودةِ إلى تساؤلِكم البريء -يا أصحابَ التحرُّرِ- حولَ اهتمامِنا ببناءِ القبورِ وما تلته من تساؤلات، نُرشِدُكم إلى ما لم يخطرْ ببالكم ونُطالبكم بأنْ تكونوا على مُستوى عالٍ من الثقافةِ؛ فمن المعيبِ أنْ يجهلَ مُعلِّمُ اللغةِ أبجدياتِ لُغته، ولن نذكرَ فيما نُرشِدُكم إليه أيّ مقبرةٍ شيعية، تلافيًا لحساسيةٍ شديدةٍ قد تظهرُ بوادرُها على شكلِ طفحٍ جلديٍ يؤذيكم..
هل سمعتُم بالأهرامات؟
أليستْ هي قبورًا لملوكٍ حكموا مصرَ التي تُعَدُّ حضارتُها من أقدمِ الحضاراتِ في العالم؟
فلماذا لم يعمدْ أهلُ مصرَ لهدمِها بحُجّةِ ما ذكرتم من تأثيرها على بناءِ الجامعاتِ ودورِ الثقافة والموسيقى؟!.
هل سمعتُم بمقبرةِ كونفشيوس، وبيتِه ومعبدِه في مدينةٍ أثريةٍ التي أدرجتْها منظمةُ اليونسكو في قائمةِ التُراثِ الثقافي العالمي سنة 1994، وهي تقعُ في إمبراطوريةِ الصين التي تُعَدُّ من الدولِ المُتقدِّمةِ في العالم، وتحظى باهتمامٍ كبيرٍ من قبلِ جميعِ الإمبراطورياتِ التي حكمتْ أرضَ التنين، فلماذا لم تلتفتِ الصينُ إلى ما التفتَّ إليه -أيُّها المُثقّفُ- ودمّرتْ هذه المقبرةَ؛ لأنَّ الاهتمامَ بها سيؤثِّرُ على الثقافةِ والتقدُّمِ والازدهارِ ودورِ الموسيقى؟!.
هل سمعتم بـ(أليساندرو فولتا)، أحدِ أشهرِ العلماءِ الإيطاليين الذين برعوا في علمِ الكهرباءِ والطاقة، الذي أقيمَ له قبرٌ ومتحفٌ عندَ بحيرةِ (كومو) على شكلِ بطاريةٍ في الشمالِ الإيطالي؟
وهل سمعتم بـ(ضريح هادريان)، المعروفِ عادةً باسمِ قلعةِ سانتْ أنجلو، وهو مبنى في مدينةِ روما بناه الإمبراطورُ الروماني هادريان كضريحٍ له ولعائلته، فهي من مئاتِ القبورِ والمتاحفِ والتماثيلِ التي تشتهرُ بها إيطاليا تخليدًا لعظمائها، وإيطاليا دولةٌ صناعيةٌ مُتحضرةٌ، فلماذا لم تشُنِّ الحملاتِ على تُراثِها ومقابرِها بذريعةِ تأثيرِ هذه المقابرِ على دورِ الثقافةِ والموسيقى والجامعات؟!.
هل سمعتم بـ(تاج محل) الذي يُعرَفُ بأنّه ضريحٌ رائعُ الصنع، أنيقُ العمارة، من الرُخامِ الأبيض، يوجدُ بأكرة بأوتار برادش بالهند، الذي شيّده الملكُ شاه جهان الإمبراطور المغولي (1630 - 1648) ليضمَّ رُفاتَ زوجتهِ (ممتاز محل) الزوجةِ الثالثةِ وتعرفُ بممتاز محل التي تدلُّه في عشقها تخليدًا لذكراها، ويستقطبُ عددًا كبيرًا من السُياح، فقد وثّقتْ منظمةُ اليونسكو أكثرَ من مليوني زائر في عام 2001، تاج محل -أيُّها المُثقّفُ- يقعُ في دولةِ الهند النووية، فهل منعَها هذا القبرُ أو إعمارُه من أنْ تكونَ دولةً نووية؟
هل سمعتم بضريحِ (فلاديمير لينين) الذي يرقدُ فيه جسدُ لينين المُحنّط مُنذُ وفاته عام 1924 حتى الآن، وتم نقله إلى عدةِ أماكنَ خلالَ الحربِ العالميةِ الثانيةِ ضمانًا لسلامته، يقعُ هذا الضريحُ وسطَ موسكو في الساحةِ الحمراء، وهو مشيَّدٌ بهياكل الكرانيت الضخم ومصممه هو (اليكسي شتشوسيف) قامَ بتصميمِه على نمطِ الأضرحةِ التقليدية القديمة...
الضريحُ في موسكو -أيُّها المُثقّف- وهي عاصمةُ روسيا، الدولةُ النوويةُ العُظمى التي غزتِ الفضاء، فهل كانَ قبرُ لينين مانعًا لها من التقدُّمِ والازدهار؟
هل سمعتم بمقبرة (جهانكير)؟
هو ضريحٌ من القرن السابع عشر، تمَّ بناؤه للإمبراطورِ المغولي جهانكير، يعودُ تاريخُه إلى عام 1637، ويقعُ في شابدره باغ في لاهور/البنجاب في باكستان، على طولِ ضفافِ نهرِ رافي. يشتهرُ الموقعُ بتصميماتِه الداخليةِ المُزيّنةِ باللوحاتِ الجداريةِ والرخامِ على نطاقٍ واسع..
يقعُ هذا الضريحُ -أيّها المُثقّفُ- في دولةِ باكستان النووية، فلماذا لم يتم هدمُه بذريعةِ تعطيلِه للثقافةِ التي تتباكى عليها؟
هل سمعتم بـ(منزل أرلينغتون)؟
"أوضح الإطلالاتِ على العاصمةِ الأمريكيةِ واشنطن، وهو مكانٌ يحكي تاريخَ الولاياتِ المُتحدة؛ منزلٌ يزورُه كُلُّ عامٍ أكثرُ من أربعةِ ملايين شخص، يحضرون خدماتِ المقابرِ والاحتفالاتِ الخاصةِ لتكريمِ المُحاربين القُدامى والشخصياتِ التاريخيةِ، قامَ جورج واشنطن بارك كوستيس، -حمو الجنرال روبرت لي قائد جيشِ الكونفدرالية في الحربِ الأهليةِ الأمريكية-، ببناءِ منزلِ أرلينغتون، كمنزلٍ خاصٍّ به، بالإضافةِ إلى نصبٍ تذكاري لجورج واشنطن، جده".
فهل أعاقَ منزلُ (أرلينغتون) أو مقبرةُ (أرلينغتون) التقدُّمَ الحضاري للولاياتِ المُتحدةِ فتعطّلتِ الحياة؟
فالبكاءُ على الحضارةِ والتقدُّمِ لدى من يدّعيهما لا يختلفُ كثيرًا عن بكاءِ الوهابيةِ على التوحيد، والعاملُ المُشتركُ بينهما أنّهما علما جيدًا أنّ الأممَ تحيا بتخليدها لرموزها، فعمدا إلى الهدمِ والمنعِ وخداعِ الناس.
ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ العليّ العظيم.