- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الشخصنة لا المؤسساتية.. من يحكم علاقة بغداد بكردستان؟
إياد العنبر
في كل مناسبة أو أزمة بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان العراق، تحضر بقوة مفردة "الاحتكام إلى الدستور". ولكنها حاضرة في خطابات السياسيين فقط، وليس لإيجاد حلّ للأزمات، وواقع الحال أن الدستور يوظف للاحتجاج وليس للاحتكام، وأصبح "كلمة حق يُراد بها باطل". إذ لطالما كانت العلاقة المأزومة بين حكومتي بغداد وأربيل من جانب، وبين القيادات السياسية الكردية والعربية من جانب آخر، هي المِعوَل الذي يهدم مبدأ عُلوية الدستور.
ولم تكن النصوص الدستورية هي التي تحكم العلاقة بين حكومة بغداد وإقليم كردستان، وإنما كانت التوافقات والاتفاقات السياسية هي التي تحدد طبيعة العلاقة بينهما. إذ أن الخلاف بين السيد نوري المالكي، رئيس الوزراء الأسبق، في ولايته الثانية وبين السيد مسعود برزاني، رئيس الإقليم السابق، لم يكن خلافا دستوريا، وإنما كان بشأن قناعة الساسة الكرد بتنصل المالكي من تطبيق بنود "اتفاق أربيل" الذي شُكلت على أساسه الحكومة في 2010 وتم في ضوئه منح السيد نوري المالكي الولاية الثانية لرئاسة الوزراء.
جيل كامل في الجنوب لا يعنيه بقاء كردستان ضمن حدود العراق من عدمه
وتصاعدت وتيرة الخلافات في ولاية رئيس الوزراء السابق السيد حيدر العبادي التي بلغت ذروتها بإجراء استفتاء على استقلال كوردستان في الخامس والعشرين من سبتمبر/أيلول 2017. والخلاف هذه المرة أيضا لم يكن خلافا دستوريا، وإنما مردّه كان في عدم التزام حكومة الإقليم بالاتفاق الذي عقده السيد عادل عبد المهدي، (الذي كان وزيرا للنفط آنذاك)، في تشرين الثاني/نوفمبر عام 2014، والذي اتفق فيه على تسليم حكومة الإقليم 150 ألف برميل إلى الحكومة الاتحادية مقابل إرسال الأخيرة 500 مليون دولار إلى الإقليم.
إذا إن الخلاف في جميع محطاته لم يكن بشأن الالتزام ببنود الدستور أو عدمه.
حاول السيد عادل عبد المهدي تجاوز التوتر في العلاقة بين حكومتي كردستان وبغداد بعد أزمة الاستفتاء بكسب ودّ الكرد من خلال تحديد اتفاق جديد في موازنة 2019. ينص هذا الاتفاق على التزام حكومة إقليم كردستان بتصدير ما لا يقل عن (250000) برميل يوميا من النفط المنتج من حقولها، على أن تسلم الإيرادات النفطية إلى الخزينة العامة للدولة.
في المقابل، تلتزم الحكومة الاتحادية بدفع مستحقات إقليم كردستان بما فيها تعويضات موظفي الإقليم ويستقطع مبلغ الضرر من حصّة الإقليم في حال عدم تسليمه للحصة المقررة من النفط.
في الطرف الكرُدي، هناك جيل كامل لا يرتبط بأي علاقة مع العراق العربي
لكن حكومة الإقليم لم تلتزم لحد الآن، بتنفيذ بهذا الاتفاق. أما حكومة بغداد فإنها مستمرة بدفع الرواتب ومستحقات الإقليم، ويبدو أن علاقات الصداقة التي تربط عبد المهدي بالقيادات الكردية قد تكون المبرر لغض الطرف عن عدم محاسبة حكومة الإقليم في حال عدم الاتفاق الذي حددته بنود الموازنة. فتاريخ النضال وعلاقات الصداقة هي التي تحكم علاقة الحكومة الاتحادية بالإقليم وليس التشريعات والقوانين النافذة.
علاقات المجاملات الشخصية بين الطبقة السياسية الحاكمة في بغداد وأربيل، لا تزال تعمل بواقع تاريخي محكوم بعلاقات المعارضة أكثر من كونه محكوم بواقع التحولات والتوازنات السياسية بعد 2003. فالتحالف الذي قام على أساس المظلومية الشيعية ـ الكرُدية بات يفتقد للأرضية التي يقف عليها، فالشيعة لم يعودوا مظلومين من قبل السلطة، بل باتوا هم أصحاب السلطة الحقيقيين. والكرُد بتعاملهم مع الشيعة وفق منطق التغالب جعلهم متحالفين مع أحزاب سياسية شيعية فشلت في إدارة الحكم، وفسادها بات يملئ البلاد.
ومن ثم فَقَدَ الكرُد ثقة جماهير الشيعة وباتوا متهمين، من قبلهم، بنهب ثروات البلاد ويرونهم دولة مستقلة وليس شريكا في الوطن. ولذلك نجد جيلا كاملا في الجنوب لا يعنيه بقاء كردستان ضمن حدود العراق من عدمه، فضلا عن جيل سابق لا يحتفظ من ذكريات عن الكرُد إلا ذكريات "حرب برزان" أو "حروب العصاة" كما يسمونها.
وفي الطرف الكرُدي، هناك جيل كامل لا يرتبط بأي علاقة مع العراق العربي، إذ حتى اللغة العربية التي تشكل رابطا للتواصل، نجدها غائبة عن الغالبية العظمى من جيل الثمانينيات والتسعينيات الذين لا يجيدونها، وهذا ما دفعهم إلى الاقتناع بعدم وجود أي رابطة تربطهم بالعراق.
تحالف السياسيين الكرُد والشيعة لم يتوسع خارج إطار المنطقة الخضراء وحكومة أربيل
إن الشخصنة والتخادم السياسي، بين طبقة سياسية تسلمت مقاليد السلطة في بغداد ـ وجعلت العراق في صدارة الدول الأكثر فسادا وفشلا ـ والإقطاعيات السياسية في كردستان، هما العاملان الرئيسان في رسم ملامح العلاقة بين كردستان وبغداد.
وأصبح الواقع السياسي محكوما بعدم جدية السياسيين الكرد في حلحلة جميع القضايا العالقة مع بغداد؛ لأن حلها يعني فقدان عنوان لتهديد قومي يستهدف الكرد، أيْ التهديد الذي يبرر هيمنة حكم العوائل السياسية في كردستان؛ ولا القيادات السياسية في بغداد ترغب أو لديها القدرة على بناء دولة مؤسسات تكون فيصلا في حل الخلافات بين حكومتَي أربيل وبغداد.
ومن ثم، بات لدينا نظام سياسي عنوانه الدستوري "فيدرالي"، وواقعه دولة داخل دولة. فتحالف السياسيين الكرُد والشيعة لم يتوسع خارج إطار المنطقة الخضراء وحكومة أربيل، ولم يتطور على المستوى الجماهيري. ومن ثم فشل في خلق نظام سياسي قادر على توفير بيئة صحية للاندماج الاجتماعي وتشكيل هوية وطنية، وبالنتيجة فشل التحالف على أساس المظلومية ومنطق المعارضة في بناء دولة ـ أمة.