بقلم: حسين فرحان
يدعى بالرشيد ولم يكن رشيدا.. حسبه في السفاهة والغي وانتفاء الرشد - وهو الحريص على ملكه - ما تبجح به قائلا: « لو نازعني رسول الله لأخذتُ الذي فيه عيناه ».
أنى له الرشد وقد سرق الصفة من قاموس الفضائل وادعى ما ليس فيه، كما ادعى ماليس له حين مشى متبخترا في أروقة القصور ينعته الناعت بإمرة المؤمنين فصدق اللا أمير أنه أمير.
رؤيتان في منام أبناء الملوك لم تنفعاهما في كف الأذى عن العبد الصالح ولو أنهما كانا من أهل الإنصاف لانتفعا بأحسن القصص من محكم التنزيل، ولانتفعا من نور سمي الكليم وحكمته كانتفاع ملك مصر حين أطلق الجمال اليوسفي يستنقذه وشعبه من سنوات شداد عجاف، لكنها آفة العرش وعشق الملك تلقي بهما في الخطيئة الكبرى بحق حجة الله في أرضه.
لم يكن المهدي العباسي مهديا حين ضيق على الأمام وحبسه ورغم أنه رأى في منامه الأمام عليَّ بن أبي طالب عليه السّلام وهو يقول: يا محمّد! « فَهَلْ عَسَيْتُم إنْ تَوَلَّيْتُمْ أنْ تُفْسِدوا في الأرْضِ وَتقطّعوا أرْحامَكُمْ! ».. فاستمر بالتضييق عليه حتى بعد تلك الرؤيا رغم أنه أطلق سراحه.
ولم يكن الرشيد رشيدا وهو يجدد حبس الامام رغم أنه رأى فيما يرى النائم (إني رأيت الساعة في منامي، كأن جيشا قد أتاني، ومعه حربة، فقال لي: إن لم تخل عن موسى بن جعفر الساعة، وإلا نحرتك بهذه الحربة،).. لكنها نزوة السلطة وحب الرياسة التي لايهمه لو أنه يحارب الرسول لأجلها.
المحنة مع هارون هي الأشد مضاضة على العبد الصالح، حيث ابتدأت مع أول حج لهارون بعد أن تولى الخلافة، عندما ذهب لزيارة قبر الرسول [ص]، ووقف أمام القبر الشريف وسلّم عليه قائلا: "السلام عليك يا رسول الله! السلام عليك يا ابن العم!" مفتخراً بذلك على من معه بقرب نسبه من رسول الله [ص]. فما كان من الإمام موسى بن جعفر [ع] الذي كان حاضراً وقتها إلا أن سلّم على الرسول قائلاً: "السلام عليك يا رسول الله! السلام عليك يا أبه!" فتغير وجه الرشيد على الفور، وبان الغيظ فيه. لكنه أراد أن يكبته، فقال للإمام [ع]: "هذا الفخر يا أبا الحسن حقاً!".
كانت هذه الحادثة سببا من أسباب عزل الأمام وحبسه، مع دوافع أخرى أظهرها اللاأمير أو أضمرها.
وأما العزم على قتله عليه السلام.. مع ما أظهروه وأضمروه حادثة عزمهم على رد فدك..
ويذهب " ابن شهرآشوب " إلى أن الرشيد إنما كان يريد إرجاع " فدك " إلى موسى الكاظم، وكان موسى يأبى ذلك، ولما ألح عليه الرشيد، طلب موسى أن يأخذها بحدودها، ولما سأله الرشيد عن حدودها قال: الحد الأول عدن، والحد الثاني سمرقند، والحد الثالث إفريقية، والحد الرابع سيف البحر، مما يلي الخزر وأرمينيا، فغضب الرشيد وقال: فلم يبق لنا شئ، فتحول عن مجلسي، فعند ذلك عزم الرشيد على قتله..
لم يكن السجن واحدا ولا السجان.. فالبصرة وسجنها وحبوس عيسى بن جعفر، والفضل بن ربيع، والفضل بن يحيى البرمكي، ثم السندي بن شاهك وطامورته التي لايعرف فيها الليل من النهار.. حلق القيود.. ورض الساق.. وانحناء الجسد الشريف.. ورسالة تطرق مسامع اللا أمير: "إنه لن ينقضي عني يوم من البلاء إلا انقضى عنك معه يوم من الرخاء، حتى نفضي جميعاً الى يوم ليس له انقضاء يخسر فيه المبطلون".
كان الختام برطب دست فيه يد الخلافة الظالمة سمومها ليكتب عليه السلام إلى أحد أصحابه وهو عليّ بن سويد كتاباً جاء فيه: "إنّ أوّل ما أُنهي إليك نفسي في لياليَّ هذه, غير جازع ولا نادم, ولا شاكٍّ فيما هو كائن ممّا قضى الله وقدّر وحتم".
موعد على الجسر ببغداد وجنازة ملقاة ينادى عليها بذل الاستخفاف..
حجة الله لم تحجبه السجون، كانت فيوضات نوره تملأ الدنيا وكان السجن موضع تلك السجدة الطويلة والضراعات المتصلة « اللهم إنّك تعلم أنّي كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك، اللهم وقد فعلت، فلك الحمد ».
ومايزال كاظم الغيظ بابا للحوائج وطبيبا للفقراء وحجة الله ونوره وبرهانه.
أقرأ ايضاً
- السجنُ لايشبه أيَّ عالم آخر
- الامام الكاظم عليه السلام ..السجن احب اليه من المداهنة
- لاتنتقدوا الفاسدين لكي لايضعونكم في السجن