بقلم: مازن الزيدي
بين احتفال بعض طلبة جامعة الانبار برفع صورة للدكتاتور المقبور، وقصيدة القاها شاعر من ذي قار، خيط رفيع، لايكاد ان يتحسسه الجميع ولايمكن رؤيته لشدة شفافيته، يشير الى ذاكرة عمرها اربعة عقود تم طمسها وتشويهها بشكل ممنهج.
اهتزت وتداعت اطراف عدة لمعاقبة كل من طلبة الجامعة والشاعر لردع من يتجرأ لاحقا على الذهاب بعيداً في حنينه لحقبة البعث وسنوات القمع والتنكيل والحروب الداخلية والخارجية التي ختمت بفتح ابواب البلد امام احتلال مدمر.
ومع اقرار البرلمان السابق لقانون حظر البعث مطلع عام ٢٠١٦، الذي يتضمن عقوبات صارمة لمن يروج للحزب المحظور بأي شكل من الاشكال، فإن التشريع بقي حبراً على ورق؛ اذ لم يتحول القانون الى اجراءات حكومية او قضائية فعّالة ورادعة.
لا بل حتى اجراءات المساءلة والعدالة تم تجاوزها كما شاهدنا ذلك مؤخرا في اختيار بعض الوزراء والمرشحين للمناصب العليا.
وبالنتيجة فإننا بتنا نشاهد اشادة وحنين يتغذيان ويستقويان بالفشل الخدمي والسياسي الذي يعاني منه نظام ما بعد ٢٠٠٣؛ مع الاقرار بالدور المخرب الذي لعبته ايادي البعث في اذكاء التوترات والنفخ في جمر الطائفية.
واخر هذه الادوار التخريبية، التحالف البعثي مع داعش عبر المجالس العسكرية التي كان لها دور مؤثر وبارز في ما يسمى بساحات الاعتصامات.
للاسف فإن نظاماً سياسياً تشكّل من معارضي وضحايا نظام صدام، وتأسس على سردية المقابر الجماعية والانفال وتصفية المعارضة الوطنية، لكنه في الوقت ذاته تعاطى بشكل سيء جدا مع ذاكرة القمع والديكتاتورية التي يجب ان تنقل بكل أمانة وحرفية الى الاجيال القادمة؛ كجزء من واجبات النظام الاخلاقية لتوثيق تاريخ أسود يجب الاّ يتكرر في هذه البلاد.
واذا ما تجاوزنا الفساد السياسي وسوء الادارة الذي حال دون تدوين ذاكرة حقبة البعث، فإن خلط المفاهيم الممنهج بين المصالحة وتجاوز الماضي وبين حماية الذاكرة وتدوينها، كان عاملاً رئيساً في انبعاث نوستالجيا شعبوية الى حقبة البعث.
والى جانب الخلط المدروس والممنهج للمفاهيم، فقد ادى نهب الارشيف العراقي المكون من آلاف الوثائق الخاصة باجهزة الامن والمخابرات والجيش على يد المخابرات الامريكية في اول عملية من نوعها لتصفير ذاكرة شعب من الشعوب يشهدها التاريخ المعاصر، وبتسهيل بعض المتعاونين العراقيين.
وحتى الان لم تبذل الحكومات العراقية المتعاقبة جهدا واضحا لاستعادة الارشيف العراقي الذي بات مادة تتداولها وتتاجر بها مراكز الابحاث والجامعات الامريكية بشكل انتقائي.
كما ان الحكومات ذاتها لم تتحرك لمحاسبة وملاحقة من ساعد على ارتكاب هذه الجريمة الاخلاقية والتاريخية؛ التي تضاهي في حجم دمارها النهب والتخريب المنظمين الذي تعرضت له المتاحف والاثار العراقية في عامي ٢٠٠٣ و ٢٠١٤.
التجربة الكردية كانت فريدة من نوعها في تدوين وتوثيق ذاكرة حقبة الديكتاتورية في مدينة حلبجة، والاستذكار السنوي والمنظم لجرائم الانفال والتطهير العرقي والتغيير الديموغرافي.
خلافاً لما جرى في بغداد، فقد نجح الكرد في حماية ذاكرتهم وربط الاجيال الناشئة، على الرغم من وجود الخلافات السياسية المزمنة بين احزابهم، وترسخ الفساد وسوء الادارة واحتكار السلطة والثروة في مؤسسات الاقليم، كما هو الحال في الحكومة الاتحادية والحكومات المحلية في الوسط والجنوب.
لم يقع الكرد في فخ خلط المفاهيم والتنكر لمآسي ابناء جلدتهم، والتغاضي عن اهمية حماية الذاكرة بشكلها المعنوي والمادي، كما حدث لدينا رغم تخصيص مليارات الدولارات لمؤسسات معنية بهذا الجانب كالشهداء والسجناء، والمساءلة والعدالة. حتى الوزارات المعنية في صناعة ذاكرة وطنية، كالثقاقة والتربية والتعليم، فشلت جميعها فشلا ذريعا في سدّ هذه الثغرة.
فالمحاصصة التي تخضع لها الوزارات وتعاقب الامزجة والتيارات السياسية على ادارة هذه الوزارات، حالت ان تقوم وزارة كالثقاقة بتشييد النصب والتماثيل او اقامة المتاحف الخاصة بتوثيق جرائم النظام السابق بحق اجيال من العراقيين.
الفشل ذاته ينجرَ على وزارتي التربية والتعليم اللتين لم تبذلا جهدا واضحاً وملموساً على مستوى المناهج او التدريس. ويعود سبب ذلك الى انعدام التخطيط والافتقار الى رؤية وطنية في ادارة هاتين الوزارتين.
ان اخفاق النظام الجديد على مستوى حماية وترميم الذاكرة واستعادة الارشيف الوطني من ناهبيه، يوازي كل الفشل الذي شهده النظام في بقية المجالات. لابل يمكن اعتباره فشلاً مؤسساً لكل مظاهر الفشل الاخرى.
أقرأ ايضاً
- سموم "البعث" وبقايا شخوصه
- المصالحة بين حظر النازية وحظر حزب البعث في العراق
- عودة في الذاكرة.. ماذا فعلنا بعد الديكتاتورية؟