بقلم: نجاح بيعي
لم تزل خطبة جمعة كربلاء الثانية تتناول بصيغة غير مُباشرة ومنذ 5 شباط 2016م (تاريخ امتناع المرجعية العليا عن عرض رأيها في الشأن العراقي إسبوعيا ً إلا ما استجدّ من أمور) القضايا المهمة والحساسة ومنها الشأن السياسي , لما له من دور خطير في المجتمع والدولة معاً.
هذا لأن المرجعية العليا معنيّة بصورة مُباشرة بتلك القضايا التي تتوقف عليها المصلحة العامة للبلد. وقد يستخدم الخطيب أحيانا ً أنماطا ً مُختلفة من الخطاب , في توصيل ما يُراد للأمة من الدروس والعِبر كأن يختار آية مُباركة أو حديث نبوي شريف أو قول لإمام معصوم أو حادثة تاريخية. والنمط الأخيرربما هو السائد ويكون بـ(اختيار حادثة تاريخية مُعينة وإسقاطها على الواقع المُعاش).
فأسلوب اختيار مقطع تأريخي وإسقاطه على واقعنا المُعاش هو اختيار ذكيّ وموفق. فهذا الأسلوب ينتشل المُتلقي (المواطن) ويضعه بشكل عفوي أمام عملية ربط ذهني بسيط بين صورتين الأولى هي واقعه (المأساوي المُعاش) والحاضر وجدانيا ًعنده بشكل مستمر , والثانية (الحادثة التأريخية) المحكيّة والتي جاءته جاهزة عن طريق التلقي لتستقر بذهنه , ولم يمضي على المُتلقي (المواطن) أدنى جهد ووقت حتى يتم الربط فيما بينها , ويجد نفسه وجها ً لوجه مع صورة ناصعة لواقعه , بمُقدمات ونتائج واضحة كالتي في الحادثة التاريخية. بل يكتشف أنه بدء فعلا ًيقرأ بنفسه رسالة المرجعية العليا الموجهة إليه ويقف على ما أرادت منه على وجه التحديد. وهذا النمط من الطرح يضعنا أمام مفاهيم عدة منها:
1ـ أن التاريخ (بالنسبة للإنسان ـ المجتمع) حركة فاعلة خلال الزمان.
2ـ الإنسان محور هذه الحركة الفاعلة في محيطه (المجتمع).
3ـ والإنسان من خلال هذه الحركة يكون على نحو التكامل المعرفي والحضاري.
4ـ استحضار الحادثة التاريخية وإسقاطها على الواقع الحالي ,هو لإستخلاص الدرس والموعظة لئلا يقع الإنسان بذات الأخطاء والعوائق , ويفسح المجال له لأن يُصلح من حاله ما فسد. وهذا لا يكون إلا إذا اشتمل (واقعنا) الحالي على ذات العناصر المُكوِنة للحادثة التأريخية فيكون التطابق باعث لإستخلاص الدرس وصيرورته.
وهذا ما ذهب إليه وبيّنه أمير المؤمنين "عليّ" عليه السلام ودعا إليه في وصيته لأبنه الإمام "الحسن" (ع) حينما قال:(أيْ بُنيَّ إنّي وإنْ لم أكُنْ عُمِّرتُ عُمُرَ مَنْ كانَ قَبلي، فَقَد نَظَرتُ في أَعمالِهِمْ، وفَكّرتُ في أخبارِهِمْ، وسِرتُ في آثارِهمْ، حتّى عُدتُ كأحَدِهمْ، بَلْ كأَنّي بِما انْتَهى إلَيّ مَنْ أمُورِهمْ، قَدْ عُمِّرتُ مع أوّلَهمْ إلى آخِرهمْ، فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذلكَ مِنْ كَدَرهِ، وَنَفْعَهُ مَنْ ضَرَره)!.
ـ فحينما تناول مُمثل المرجعية العليا السيد "أحمد الصافي" في الخطبة الثانية لصلاة جمعة كربلاء في 14كانون الأوّل 2018م , لمقطع تأريخي موجز مُلخصه أن الإمام "عليّ" عليه السلام دعا (عمّار بن ياسر) إلى ترك النصح لـ(المغيرة بن شعبة) بقوله: (دعهُ يا عمّار.. فإِنه لمْ يأخذ منَ الدّين إلا ما قاربَتهُ الدُنيا، وعلى عمدٍ لَبَسَ على نفسهِ ليَجعلَ الشُّبُهاتِ عاذراً لِسَقَطاتِه) لخير دليل على ذلك.
ـ ماهي عناصر الحادثة التاريخية المذكورة ؟.
ـ وماهي عناصر واقعنا المُعاش لو تمّ الربط الذهني بينمها؟.
ـ وماذا كانت النتيجة؟.
اشتمل المقطع التأريخي على عناصر بحيث لا يجد المُتلقي جهدا ً في إسقاطه على واقعه وربطه , به فيكون الأمر ببساطة شديدة وكما يلي:
1ـ شخص أمير المؤمنين (عليّ) عليه السلام الناصح الأمين في التاريخ , في مُقابل المرجعية العليا المُتمثلة بشخص السيد (السيستاني) دام ظله اليوم. والسيد (السيستاني) يُمثل خط الإمامة في عصر الغيبة وتقع عليه مسؤولية حفظ الدين والمذهب والمصلحة العليا للأمّة وهو في موقع الناصح الأمين في الوقت الراهن.
2ـ شخص الصحابي (عمّار بن ياسر) في التأريخ , مقابل المُتلقي (المواطن ـ المُجتمع) كل المؤمنين وجميع العراقيين اليوم. و(عمّار بن ياسر) تلك الشخصية العالمة المُتدينة المرتبطة بالحب والولاء والتسليم لأهل البيت عليهم السلام , حتى كان مفصل تأريخي مهم ميّز بين الحق والباطل , لهذا نبأ النبيّ الأكرم (ص وآله) الأمة به وقال (ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار).
3ـ شخص (المُغيرة بن شُعبة) في التأريخ , في مُقابل كل شخص تسنم موقعا ً حكوميا ً اليوم ويقصد عموم الطبقة السياسية المُتصدية للشأن السياسي في البلد. شخصية (المُغيرة) عنوان الحاكم (الوالي) فقد حكم البحرين والبصرة والكوفة. وهو طالب دنيا , ودينه هو ما يقربه منها لذا لا يتقبل النصح والنصيحة أبدا ً.
4ـ أمر الإمام (عليّ) عليه السلام لـ(عمّار بن ياسر) لأن يترك نصيحة (المُغيرة بن شعبة) في مُقابل لأن يكف المُتلقي (المواطن) في إسداء النصح والإرشاد لأيّ مسؤول حكومي ويقصد عموم الطبقة السياسية اليوم.
ـ النتيجة: هي أن نأخذ الدرس ونمتثل لأمر المرجعية العليا بعدم إسداء النصح للطبقة السياسية الحاكمة أو مُحاباتها ومُداهنتها ,لأنها وصلت الى نقطة اللاعودة ولم تعد تمتثل لنصيحة الناصحين أيّا ً كانوا حتى لو كان شخصا ً مثل أمير المؤمنين (عليّ) عليه السلام.
ـ لماذا ؟.
وذلك لأسباب داخلة في بُنية شخصية مَن يأبى النصح والنصيحة. و(المُغيرة الحاكم ـ الطبقة السياسية المُتنفذة) مثلا ًعلى ذلك. ومن تلك الأسباب: إنّ الدين عنده لعق على لسانه يأخذ منه ما يُقربه من الدنيا بإعتباره من عبيدها وعبّادها. وأنّه ليس ممّن اشتبه عليه الأمر (في عدم تثبته على الحق) فيكون معذورا ً بسبب قصور فيه أو تقصير , بل يتصرف عن علم ووعي وإرادة , ويأتي بالشهبة عمدا ً لمكسب دنيوي رخيص , ويتراءى للناس كمن اشتبه عليه الأمر ليكون عذرا ً لزلاته أمامهم ويهرب منها سالما ً.
فشخصية (المُغيرة ـ الطبقة السياسية) نموذج للشخصيته الإسلامية المُنافقة الفاسقة , التي تتحرك في المجتمع الإسلامي بلا مبدأ وبلا دين , وهي لا تثبت على حق ولا يجري على يدها حق أبدا ً. وكان (المُغيرة) قد عُرف عنه أنه شخص (غادر). وأن يديه ملطخة بدماء (13) ثلاثة عشر شخصا ً قتلهم غدرا ً في الجاهلية , وكان قد دفعه (الغدر) لأن يعتنق الإسلام خوفا ًمن القصاص. و(المُغيرة) كان مع مَن ساهم في الغارة على بيت (فاطمة الزهراء) عليها السلام. وكان مع مَن أجبر الإمام (علي) عليه السلام على المبايعة بعد وفاة النبيّ الأكرم. وكان واحدا ً من الذين أرسلهم (معاوية) لأجل الصلح مع الإمام (الحسن) عليه السلام. والأدهى من ذلك كله أنه كان أول من اقترح (ولاية العهد ليزيد) على معاوية ـ وبهذا يكون قد شرك بدم الإمام (الحسين) عليه السلام وإن لم يحضر فاجعة كربلاء. وكان هلاكه طبقا ً لشخصيته الإنتهازية الفاسقة أن تخلى عن الكوفة وهرب منها يوم ضربها وباء (الطاعون) , وبعد إن ارتفع الطاعون وزال الوباء قفل راجعا ً إليها , ولكنه ما إن قدِمها حتى أصابه الطاعون ومات.
ـ فـ(دعه يا عمّار..) دعوا وإتركوا الطبقة السياسية المُتنفذة كما يقول لنا أمير المؤمنين (ع) , لأنهم كثيروا السقطات والزلات وهم الى زوال لا مُحالة!.
أقرأ ايضاً
- وللإبطال مقابرٌ ايضا..!- طقسٌ كُروي
- تفاؤل بداخلنا.. أن نعيش بسلام..!؟
- تفاؤل بداخلنا.. أن نعيش بسلام..!؟