حجم النص
أ.م.د محمد تقي جون
بعد أن كتب قصته الأولى والتي لاقت رواجاً كبيراً، قرر أن يحترف الكتابة. قال له (ضميره) الذي بقي يلاحقه منغصاً عليه فرحة النجاح – ربما حسداً- : " إن القاص مسؤول عن مصائر أبطاله!.. لأنهم سيلاقون ما يكتبه، وعليهم أن يتقبلوا كالمخلوقين ما يقدره كالخالق.. فيغني أحدهم ويقتل الآخر، فيجب أن يقدر الأمور وفق شرعية وقانون وليس باعتباطية وكيفية.
لقد أطال ضميره الحديث وهو يستمع على مضض، وفجأة وبالتفاته صاح: " اسكت!! فإذا المكان خالٍ تماماً إلا منه. عندها قال: لا يوجد ضمير البتة فأبطالي (قصصيون) بلا روح ودم، وحتماً لن يبعثوا (يوم يبعثون)، إن ضميري يحسدني، أو هذا هراء مني بسبب سقم معين لأكلة أكلتها أو نحوه.
كان هو معروفاً بقوة بل قسوة القلب منذ كان صغيراً، فمرة عذب قطة حتى الموت، وكان يتخذ قرارات وصفها أبوه بأنها (متهورة غير مبالية).. لعله صار يتذكر هذا وغيره بعد حديث ضميره (الكابوسي). وفي الصباح أخذ يقرأ بخيلاء ما كتبته الصحف عن قصته السابقة (هروب الضفاف). إنها معاكسة بين الخيال والحقيقة. وهي كضربات الجزاء التي يبالغ فيها الرامي بخداع حامي الهدف فيوجه عنايته إلى جانب ويرمي على الجانب البعيد. فواقعاً الضفاف تهرب (تختفي) عندما يفيض النهر، ورمزاً وخيالاً يكون هروب الضفاف بسبب طاغوتية النهر.
لم يكن خروج ضميره عبثاً فقصصه دائماً فيها (ماء) (بصورته المخيفة)، ودائماً تكون معه خيارات قاسية. وهكذا أخذ ضميره يقهقه بخبث قهقهات متصاعدة صار يسمعها تقترب من انتباهه وانزعاجه.. لقد كان يؤشر بقهقهاته تلك الحقيقة (حقيقة الماء والخيارات القاسية) ويقسم مؤكداً انه سيخرج مرة أخرى لا ليحدثه بل ليضربه بالحقيقة القاضية.
واضطجع وهو يمسك بالصحيفة. ثم صرخ (وجدتها!!!) وراح يلملم عدة الكتابة: القلم، الورقة، والعزلة. وصفقت الرياح العاتية باب الغرفة، وصاحت أمواج بحر بعيد.. لا يدري أحد ربما استدعاها هو بقصة جديدة.
وكتب:
" أبحرت سفينة تقل شباباً وشيوخاً بنفس العدد في شبه نزهة".. وبينما كان ربان السفينة يؤكد – للقاص - بأنها نزهة إلا أن المضارع والمستقبل قللا من مصداقيته، فبعد الذهاب السريع والرجوع السريع (غير المنظور والفائق) بين الأزمان الثلاثة تم الاتفاق على أن تكتب الجملة (شبه نزهة).
لم تكن الأحداث كثيرة، إلا أن (شبح الفروق) كان له بالمرصاد. لقد أخطأ القاص جداً لأنه وضع الفروق فأركب سفينته (شباباً وشيوخاً بنفس العدد). وما كان عليه أن يذكر هذه الجملة؛ فكل السفن يركبها شباب وشيوخ، إلا انه أسرف على نفسه –على ما يبدو – بجلب الانتباه.. انتباه (شبح الفروق)!
وأضاف:
" ثم هاج البحر..." وفور كتابتها صار قلبه يخفق بسرعة.. لقد أحس بعد تدخل ضميره أن الأحداث قد تخرج من يده. وحينما أصبحت أمواج البحر تعلو وتتطاعن في عناق مخيف، صار وجهه يكفهر وزاد قلبه خفقاناً!! لقد بات يخشى على أبطاله. تذكر قول ضميره أنه مسؤول عن مصائر أبطاله لأنه خالقهم.. انه يلعب دور الإله الخالق فيجب أن يكون عادلاً وقادراً. فحاول استعادة كل ما في طفولته من قسوة وعبث لعلها تزوده بمؤهلات (القاص – الإله) وظل يجرب محاولاته.
وبعد تفكير – محاولة منه لتجنب الكوارث البحرية التي قد تودي بهم – كتب:
" إن الرحلة وقعت صيفاً وكانت الشمس مشرقة جداً جداً" . ولكن ماذا بعد؟ سفينة في البحر صيفاً.. أية إثارة في ذلك.. ووقعت الصحيفة المبشرة بالنجاح أمام عينيه، فتمتم " يجب أن تكون إثارة". فكتب:
" وفجأة ظهر حوت كبير أضخم من السفينة وصار قبالتها. فأخذت النساء بالصياح والعويل وارتعد الرجال.. ثم دمدم البحر وترنم بنشيد النهاية".. فعلا دويٌّ حتى خرج من الورق فأسمع من في البيت بحيث جاءت الخادمة مهرولة فسألته عن مصدر الصوت! فأخبرها بأنها تتوهم حسب.
فكتب:
" ثم هدأ البحر وأضاع الحوت سبيله.. ربما أغرته حوتة (أنثى الحوت) - دون أن يتأكد من صحة تأنيث لفظ الحوت - ..فسكنت نفوس المسافرين". وهنا أحس بأن المتلقي قد استنفر ذهنه ويطلب المزيد وانه صار على ثقة بإبداعه.
فكتب:
" بعد أن تفحص الربان المسافرين وجد طفلة قد ماتت رعباً، وامرأة حاملاً قد أجهضت، وشيخاً أغمي عليه..و.." توقف! لقد كتب ذلك في اللوح وماذا؟ علا صراخ والدة الطفلة التي أماتها رعباً وجحظت عيناها، وفقد زوج المرأة الحامل التي أجهضها عقله، أما الشيخ الذي أغماه فلم يصحُ أبداً.
أصبحت الأحداث تتمرد على القاص.. لم يدر في خلده تبعات أفكاره الهوجاء.. ماذا يفعل أمام هذه الضحايا؟ هم ينتظرون فمن تراهم يدعون؟ هل يدعون الله الواحد القهار وهو لم يخلقهم البتة، وربما ينظر إلى قضية خلقهم الكتابي على انه من عبث الحياة وهو –جل جلاله – لم يخلق شيئاً عبثاً. وقال: " هل أدعو الله لهم أم ألغي الأحداث الموجبة لكارثيتهم فأكون جباناً غير كفوء للكتابة؟
وعاد إلى رباطة جأشه: " لقد صار المتلقي أكثر تفاعلاً وثقة بإبداعي.. إن هؤلاء الأبطال (المختلقين) – وجدها بعد بحث طويل عن بديل للفظة المخلوقين المخصوصة بالبشر – أقل من قضية القدر.. وهي قصة لا فرق كثيراً فيها بين ولدَ ومات فكلا الفعلين حدثٌ بنفس القيمة الدرامية.. وقطعاً ما أكتبه غير مكتوب في اللوح المحفوظ"!!
ثم كتب:
" وبينما تتقدم السفينة وربانها مذهول بما حدث، انحرفت السفينة عن مسارها فاصطدمت بصخور ثلجية فتحت في جدار السفينة فتحة كبرى جعلت السفينة تنزل في الماء والماء يصعد فيها، فاضطرب المسافرون جميعاً بما فيهم الربان الذي استسلم للموت". ثم ألقى القلم مفزوعاً وهو يشاهد حال الركاب (أبطاله) وهو يتغصصون الموت وعلى وجوههم علائم النهاية. لقد خرجت الأحداث من يده فعلاً..- إلا إذا أرادها قصة فنطازية مسرفة في العبث الخيالي- فحزن حزناً شديداً وهو بين جذبين كبيرين: القصصية التي تدعوه إلى الكتابة بحريَّة وفق المنظور الفني الخالص، ورأفته بأبطاله، وهي خارج لعبة الفن تماماً.
وفي عنفوان مأساته، وخرَسان لسانه، وتوهان عقله خرج ضميره مجدداً.. ولكن هذه المرة بشكل سافر وبقوة مقهقهاً: هاه.. هوه.. هيه... لقد ورطت نفسك بهذا القرار اللاانساني السخيف، فأظهرتَ حقيقة وحشيتك المنغرزة في أصلك منذ الطفولة، وحبك للتسلط واضطهاد الآخرين حتى انك لا تكتمل سعادتك أو تشعر بها إلا بشقاء الناس ومشاهدتهم يتلوون بين يديك.
وصاح في وجهه: " هل ستقتل عشرات الناس وتقنع نفسك بأنهم وهميون ليسوا من لحمٍ ودم. وماذا عن مشاعر العاشقين والمحبين الموجودين في حشد هؤلاء المسافرين حين تفجعهم ببعضهم البعض.. هل هي تنميق وترصيف كلمات على الورق بلا معنى حياتي".
لم يحر القاص جواباً ولم يصرخ في وجهه كالسابق. لقد شلته الكلمات تماماً وكأنه أقرَّ بذنبه. وقامت أمام عينيه مأساة أبطاله واحداً واحداً فعاشها بدقة. ورأى هيجانهم وبحثهم المضطرب عن النجاة.. فامتلأ رعباً حتى كاد يغشى عليه..
وفي الوقت الذي يئس الأبطال أن يجدوا منفذاً منقذاً ووجهوا أنظارهم إلى القاص علَّه أن يرجع عن وضع هذه الكارثة الحتمية، قرر القاص الهرب تاركاً الأحداث تسير بنفسها وكما اتفق. لقد ترك منصة الكتابة وهرب!! فالآن لا قاص، وسفينة تغرق، وربان حائر، ومسافرون مضطربون مرعوبون.
ونزلت السفينة بالتدريج في الأعماق، وكلما نزل جزء انتقل الركاب إلى الجزء الطافي.. وكان ضمن المسافرين اثنان يبدوان كالمتعانقين فرط الألفة والامتزاج. إلفان عجوزان: رجل وامرأة. ربما أحبا بعضهما منذ الطفولة وكبرا على الحب وأنجبا ثمرة محبة أخذت بذرها في الأرض هنا وهناك تفوح الحب والسلام والخير. وبقيا في خريف العمر معاً يمارسان المشي في المساحات الفارغة يملآنها بالحب الجديد. أو ربما هما عاشا الحب في الطفولة والشباب ثم تفارقا بفعل قاهر.. وفي مصادفة التقيا في هذه الرحلة على السفينة فأعادا الحب وتعاهدا الا يفصلهما غير الموت.
قال القبطان " أيها المسافرون لقد تركنا القاص في المجهول، وعلينا أن نعمل بدونه للتوصل إلى الحل. ولكن اعلموا أن القاص وضعنا في ظروف يقل فيها الخيار وبالتالي أنا غير ملزم بتبعة أي قرار أقرره. وفي هذه اللحظات المتسارعة لا أستطيع الوقوف على أحوالكم والتعرف إلى ظروفكم. لذا سأتخذ قرارات قد لا ترضي النواميس". فقال له العجوز العاشق" إننا وجدنا أنفسنا في سفينتك فلا تجعلنا نخسر أنفسنا في سفينتك". فقال القبطان" أنا لم أخلق المصادفة الجميلة واللحظات السعيدة التي عشتها وحبيبتك المتأخرة جداً على ظهر السفينة، لذا فأنا غير مسؤول عن ضياعكم وذهاب الحب سدىً.. بل أنا لا أعلم ماذا أصنع".
فناداه أحد المرتجفين من البرد ووشك الغرق" قرر أي قرار ونحن نوافقك". عندها قال الربان" ان زوارق النجاة بنصف عددكم.. ولما جعل القاص عددكم نصفهم شباب ونصفهم شيب، فاني اقترح أن تحمل الزوارق نصفكم الشباب لأنهم لم يعيشوا الحياة بعد، بعكس كبار السن الذين عاشوا الحياة وربما سئموها" فنظر العجوزان العاشقان إلى بعضهما البعض وقالا كلمات بصوت واحد " لم نعش معاً إذن فلنمت معاً، ولم نزرع حبنا في الأرض لتفوح الحب والسلام والخير، فلنزرع حبنا في الماء ليتركب في الناس والأشياء، وليرسب في قراراتهم، ليقتدروا على الحب ويقدروا على صنع السعادة".
لم يعد القاص إلى وجوده (القصصي) والى الوجود (المطلق). انه اختفى وكفى.. وانتهت القصة إلى موت الكبار وبقاء الصغار يدلفون في حياة روتينية بليدة إلى الكبر دون حدوث أي مفارقة أو نتيجة فكرية أو فنية. ولكن حدث فراغ معين أو ثغرة أو شرخ إنساني كبير في هذا المحيط. هو غير محسوس كالشرخ في طبقة الأوزون، أو كثقب برمودا ومأساة الفقدان.
وفي كل صباح حين تولول البلابل وتدمع عيون الورد بالندى، يندلق صوتان ممتزجان بصوت واحد يردد " لم نعش معاً إذن فلنمت معاً" وعندما تهم الشمس بالمغادرة مرتمية في أحضان الظلمة المحبطة، يظهر الربان في حمرة الأفق وعلى وجهه آثار لطم شديد يجعله فرط الحمرة جزءاً من الحمرة. وكلما همَّ قاص بكتابة قصة يظهر (ضميره) أمام طاولة الكتابة مقهقهاً ألا تكون أبطاله كغرقى السفينة.
ويتداول الناس إلى الآن- وهو زمن بعيد عن القاص والأحداث حكماً بحق القاص لم يراعِ حقيقة انه هرب ولم يتابع الكتابة إلى المأساة التي وقعت، وان أطرافا أخرى: الربان، المرتجف من البرد ووشك الغرق أكملوا المأساة. الحكم هو إن القاص لعب دور الإله فقرر حياة ناس وموت ناس بخلاف القانون الإلهي الذي لا يميت ويحيي وفق الأعمار، بل وفق حكمة أسمى من ذلك.