حزمة من القضايا المعقدة والمعلقة والشائكة ورثها العراقيون عن الأنظمة المتعاقبة وليس فقط عن النظام الصدامي البائد الذي كانت له \"حصة الأسد\" في الخراب الشمولي على الساحة العراقية بسبب سياساته الخاطئة التي جلبت الدمار للعراق وحطمت جميع بناه التحتية ، من ضمنها مجموعة من الملفات ذات الطبيعة الديناميكية المتحركة مع الزمن وغير القابلة للمعالجة والطي بسهولة.
فعلى صعيد العلاقات الخارجية \"ورث\" الشعب العراقي عن العهد البائد حزمة من المشاكل العالقة ذات طبيعة مطاطة قابلة للتمدد مع دول الجوار وتداعيات ذات نتائج سلبية مستمرة (الحروب العبثية التي شنها ضد ايران والكويت على سبيل المثال)، وخلق ذلك العهد مشاكل لاحصر لها مع الكثير من دول العالم من ضمنها مسألة الديون الهائلة التي ترتبت على العراق، تقابلها على الصعيد الداخلي حزمة أخرى من القضايا لا توصف بالمعقدة فحسب بل بالصفة الهلامية والعصية على الحل في الأمد المنظور، حيث خلق الكثير من التصدعات في النسيج المجتمعي العراقي وغيـَّر الكثير من تفاصيل الخارطة الديموغرافية العراقية التي بقيت متماسكة لقرون عدة في منظومة فيسفسائية هي اقرب للانسجام الشعبي والتعايش الوطني ، واحدث العديد من الشروخ الطبوغرافية التي اسست لكثير من المشاكل المستعصية فيما بعد ، وكان سجله في مجال انتهاك حقوق الانسان \"حافلا\" بملايين الوثائق من الجرائم ضد الانسانية التي ليس من السهولة ان تمحى من الذاكرة العراقية ، كما وزرع الكثير من الالغام في طريق أي حكومة تقود البلد من بعده تضاف الى ذلك قضايا استجدت بعد التغيير النيساني لا تقل تعقيدا عن سابقاتها تمثل بمجموعها مطبات محرجة للجميع أو قنابل موقوتة من الممكن ان تنفجر في اية لحظة تاركة وراءها جروحا إضافية في النسيج الوطني من الصعب اندمالها او نسيانها ..وتلك القضايا وغيرها هي تحد ٍ حقيقي ومستمر لأية حكومة تأخذ بزمام الأمور وهو في نفس الوقت تحدٍ لم تشهده أية حكومة عراقية منذ تأسيس العراق الحديث (1921) ولا نغالي اذا قلنا ان هذا التحدي لم تشهده حتى الحكومات التي قادت بلادها بعد الحرب العالمية الثانية (1939ـ 1945) وخاصة دول المحور التي خسرت الحرب وخرجت منها بخراب شامل يفوق التصور ..
وبالنسبة للعراق فقد كان الخراب عموميا وشاملا وكليا وعلى كافة الأصعدة والميادين والمجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية وكل ما يتعلق بالبنى الارتكازية التي تقوم عليها دعائم الدولة بمؤسساتها التنفيذية والتشريعية والقضائية وكل ما يتعلق بالبنى التحتية المجتمعية والبشرية والتنموية.
يزاد على ذلك التصدعات العميقة الغائرة في الجسد العراقي وتلك الندوب التي حفرت أخاديد في الذاكرة الجمعية العراقية وعلى سبيل الإجمال فان العراق الذي حولته الديكتاتوريات الى صحراء بلقع ( كان كثيرا مايصرح رئيس النظام السابق ان من يريد العراق فانه سيتسلم خرابا )، عليه ان يعيش وسط حقول متشابكة من الألغام وتلك الخطوط المتداخلة والمتواسقة مع التداعيات المستمرة عبر العقود الثمانية السابقة قد تشابكت ايضا مع حزمة من الثغرات البنيوية المترادفة مع \"مجموعة\" التأسيسات العراقية المتعثرة (الأول 1921 ـ الثاني 1958 ـ الثالث 2003 ) وكل تأسيس له مقارباته وسماته وصفاته وأسبابه ونتائجه (التراكمية منها على وجه الخصوص) وله ايضا \"كوارثه\" ومآسيه ونتائجه السلبية على مجمل الفعاليات السياسية والاقتصادية والمجتمعية والثقافية ، فلم تشهد العقود السابقة استقرارا سياسيا او توازنا مجتمعيا او ازدهارا اقتصاديا او تنمية بشرية او طفرة في البنى التحتية او الفوقية ولم تشهد كذلك علاقات متكافئة للعراق مع محيطه الإقليمي او القاري او الاممي ...
ويتخلل تلك التأسيسات تاريخ طويل من التداعيات البنيوية والسياسية والتقلبات الاقتصادية والتفتت الديموغرافي والتشتت الطوبوغرافي والتمايزات العرقية والمذهبية والقومية والتهميش المتعمد الذي جعل الأغلبية خارج مصدر القرار السياسي ، كما ان التغيرات المفصلية في عموم المشهد العراقي أدت بمجملها الى الصورة القاتمة التي بدا عليها هذا المشهد عشية التاسع من نيسان 2003 الذي يعد التأسيس الحقيقي والجذري والمحوري للدولة العراقية المعاصرة ضمن الميكانيكيات والآليات التي تتضمن المفهوم العام للدولة اصطلاحا وتنفيذا..وهذا التأسيس يعد الخطوة الأولى نحو فك الاشتباك بين نمط اللادولة الذي ساد بكل الثغرات القاتلة لهذا النمط وبين نموذج الدولة الذي يجب أن يسود والذي يجب أن يكون خارطة طريق نحو عراق ديمقراطي متحضر، ويعد بداية المشوار لولوج مرحلة فاصلة تتشكل فيها الملامح الواضحة في إعادة بناء الدولة العراقية وإعادة الاستقرار الدولتي والازدهار الاقتصادي والتوازن المجتمعي (وليس فقط إعادة اعمار هذه الدولة) وبخطوط غير مبهمة بعيدا عن التشابك التاريخي المزمن فيما بينها تلك الخطوط التي ظلت عسيرة عن القبول العقلاني والتفسير المنطقي لها ضمن مناهج البحث التاريخي وفلسفة التاريخ ..
اعلامي وكاتب [email protected]
أقرأ ايضاً
- التنظيم القانوني لإعادة تعيين رجل الشرطة في الوظيفة العامة في العراق والأردن
- الدبلوماسية العراقية بعد 2003: إعادة توجيه أم ضياع البوصلة ؟ - الجزء الثاني عشر
- الدبلوماسية العراقية بعد 2003: إعادة توجيه أم ضياع البوصلة ؟ - الجزء الحادي عشر