- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الدبلوماسية العراقية بعد 2003: إعادة توجيه أم ضياع البوصلة ؟ - الجزء الثامن
بقلم: حسن الجنابي
لتحقيق حلم صدام حسين في قيادة حركة عدم الإنحياز وإعتلاء «عرش» الرئاسة وتزعم حركة العالم النامي، سَعت الحكومة العراقية جاهدةً لعقد مؤتمر قمة دول عدم الإنحياز في بغداد، وكان ذلك تتويجاً للعمل الدبلوماسي المكثف والمستمر للخارجية العراقية. كانت تلك بالطبع فرصة نادرة للعراق في استضافة أكبر حشد حكومي عالمي، وتزعّم الحركة المؤثرة في ظلال الحرب الباردة والإستقطابات السياسية الدولية المعقدة في السبعينات والثمانينات من القرن العشرين.
خصصت الحكومة العراقية حينها مبالغ طائلة لإعمار مدينة بغداد، وبناء فلل وقصور وفنادق لسكن الزعماء الضيوف ووفودهم المرافقة. وجرت حملات إعمار المناطق والمنشآت التراثية، وتجديد البنى التحتية للخدمات والنقل، بما فيها مطار بغداد الدولي وفندق الرشيد، أكبر الفنادق العراقية حينها، وقصر المؤتمرات، الذي تحول بعد عام 2003 الى مقر لمجلس النواب العراقي، وهو لا يصلح لهذه المهمة رغم جمال البناية.
كانت تلك أكبر حركة إعمار في تأريخ العراق خصصت لها مليارات الدولارات في وقت كانت الحرب مع إيران على أشدّها دون أن يؤثر ذلك بصورة واضحة على القدرات المالية للعراق في انجاز تلك المشاريع. لكن الحرب العراقية - الإيرانية التي كانت مستعرة على جبهات القتال الحدودية بعيداً عن العاصمة بغداد، هي التي كانت السبب الأكبر في عدم انعقاد ذلك المؤتمر المنتظر. فعقلية صدام حسين الشرسة والمقفلة على قناعات جامدة وغريبة لم تستوعبْ أن بلداً يخوض حرباً شاملة لا يمكنه عقد مؤتمرٍ يحضره أكثر من (100) رئيس دولة في حركة تدعو الى السلم والإستقرار والعدالة في النظام العالمي.
لا شك أن صدام حسين كان يطمح في استقطاب دول العالم النامي الى صالح الموقف العراقي وبالتالي عزل إيران، وهي دولة عضو بل من أقطاب حركة عدم الإنحياز. وبالطبع لم يكن منطقياً لقادة دول عدم الإنحياز تفسير حضورهم لصالح أحد طرفي الحرب، والمحصلة فشل مؤتمر بغداد لحركة عدم الإنحياز. لا بد من التأكيد هنا بأن فشل انعقاد قمة عدم الإنحياز في بغداد لا يمثل انتصاراً دبلوماسياً لأيران بل وفاءً للمبادئ السلمية للحركة، بدليل ان عزلة إيران آنذاك كانت واضحة.
تبخرت أحلام صدام حسين في الزعامة المتَخَيلة، وقاد البلاد والمنطقة الى التهلكة والخراب والإحتلال والفوضى والارهاب. مع ذلك فإن الأموال التي أستثمرت في البناء حينها كانت نافعة، وتحسن وضع العاصمة كثيراً، على العكس من الأموال المهولة التي صرفت على السلاح والحرب والعسكرة، والتي مع استمرار تدفقها كانت تحصد معها حياة الشباب وتدمّر المجتمع.
برغم الفشل السياسي المهول الذي أُلحق بحكومة صدام حسن أستمر العمل بمشاريع إعادة تأهيل وإعمار بغداد حتى الإنجاز. وقد استضافت بغداد بعد ذلك في 28/5/1990 قمة عربية بعنوان “التحديات التي تواجه الأمن القومي العربي”. خَدَع صدام حسين “زملاءه” القادة العرب الحاضرين بمن فيهم أمير الكويت، وقام بغزو الكويت واستباحتها بالصورة الهمجية التي جرت في 2 آب 1990، اي بعد شهرين من انعقاد القمة التي منح خلالها صدام حسن شخصياً أرفع وسام عراقي لأمير الكويت، وأعتقد ان ذلك كان للمزيد من التغطية على نواياه في الغزو.
لعبت سفارات العراق وبعثاته في الخارج أثناء تلك الحقبة أدواراً حساسة حيث كانت تجري في داخلها كل الأعمال التجارية وعقود الإستيراد الحكومية، خاصة قبل فرض المقاطعة الإقتصادية إثر احتلال الكويت. حينها تولّت الأمم المتحدة وفق قرارات قاسية لمجلس الأمن الدولي مهمة الإشراف المباشر على أغلب استيرادات العراق من البضائع، بعد السماح للعراق بتصدير كميات محدودة من النفط، لتمويل حاجاته الإنسانية من الغذاء وفق قرار مجلس الأمن الدولي المرقم 986 بتاريخ 15 نيسان 1995.
كان غزو الكويت في 2 آب 1990 تتويجاً لسياسات المغامرة والمقامرة بمصير العراق وشعبه بعد 22 عاماً من الحكم المطلق لحزب البعث، قضى الشعب العراقي ثلثها في الحرب مع إيران. وبغض النظر عن شعارات الحرب لدى الطرفين فإن “منجزها” الوحيد كان هو قتل المزيد من الناس من المدنيين والعسكريين. أما الثلثان الباقيان من المدة فقد قضيت في الحروب الداخلية والقمع والإستبداد والإغتيالات والعسكرة.
خرج صدام حسين من سلسلة أحلامه في قيادة العالم الثالث أو العالم العربي أو منطقة الخليج بخفّيْ حُنَيْن. وقد استفاق على من كان يعتقد انه يحميهم من أطماع الأجانب فوجدهم يطالبونه بدفع الأموال التي غذّت ماكنته الحربية لثمان سنين عجاف، ونفخت ذاته المتضخمة أصلاً، والمسوّقة له بصورة المنقذ والبطل الذي لا يقهر. ولذلك وبعد عامين من نهاية الحرب مع ايران انقاد مجدداً الى عقله “المعطّل” وأقحمته عنجهيته القروية وأخلاقه الخشنة، وقدرته المدربّة على استخدام السلاح قبل العقل، الى غزو دولة شقيقة وابتلعها في “نزهة” كان عقله يتخيلها كافية لتناول الفطور في الكويت، ونهب الثروة وإسكات العالم بقوة السلاح وإغراءات النفط.
كان صدام قد أرسل ليلتها وفداً بقيادة نائبه عزة الدوري للقاء الوفد الحكومي الكويتي بقيادة الشيخ سعد العبد الله الصباح في مدينة جدة السعودية، لتسوية الخلافات، المادية طبعا، فلم تكن هناك خلافات سياسية بين البلدين على الأقل خلال السنوات العشرة التي سبقت ذلك اللقاء. وعزة الدوري شخص ذو عقلية مزجت التطرف الديني بإيديولوجية البعث المشبعة بالعنف. وهو مثل رئيسه وعدد من “رفاقه” في قيادة البعث، لم يكمل تعليمه، وربما أنه كان يعاني من تواضع مهنته قبل القفز الى السلطة عام 1968، وهي بيع الثلج، ولذلك فقد كان عاجزاً عن استخدام الحد الأدنى من المنطق والدبلوماسية. فبينما كان الشعب العراقي وشعوب المنطقة تكتم انفاسها تجنباً لحرب أخرى بعد سنوات الحرب مع إيران، غادر عزة الدوري الإجتماع لأداء العمرة في محاولة واضحة لإفشاله. وأنا أكثر ميلاً لآراء بعض المحللين الذين وجدوا في ذلك السلوك اللامبالي دليلاً على أن قرار غزو الكويت كان متخذاً، ولم يكن ذلك الإجتماع والإتصالات التي سبقته أو رافقته إلا للتمويه على القرار.
كانت السفارة العراقية في الكويت قبل الغزو “قلعةً” بعثية متقدمة في قلب السيادة الكويتية وأصبحت الكويت بسببها حديقة خلفية للعراق. كانت نشاطات السفارة مرعبة وبالخصوص ضد المعارضين العراقيين في فترات لاحقة. وسبق أن استخدمت بُعيْد انقلاب تموز 1968، في تنفيذ إغتيال الجنرال حردان التكريتي أحد قادة الإنقلاب في 30 آذار 1971، وكذلك في خطف الدبلوماسي العراقي عطا عبد الوهاب وجلبه الى بغداد وغير ذلك من أفعال شنيعة.
من الجدير ذكره هنا ما رواه الدبلوماسي المعروف ابراهيم الولي في كتابه “أوراق دبلوماسي عراقي” الصادر عن دار الحكمة في لندن، بأنه نقل الى سفارة العراق في الكويت ومعه كادر سفارة جديد إثر نقل كادر السفارة القديم برمته الى مكان عمل آخر بعد إغتيال حردان التكريتي، في تأكيد واضح على دور السفارة في الإغتيال. كما انه يذكر أيضاً حادثة “طريفة” عن رفض صاحب معرض السيارات الفلسطيني بيع سيارة له، ولما استفسر عن الأمر ظهر ان قتلة الفريق حردان التكريتي نفذوا الجريمة بواسطة سيارة مشتراة منه، دفع ثمنها في نفس اليوم وقبل استكمال تحويل الإسم للمالك الجديد!
يتبع ..
أقرأ ايضاً
- كيف السبيل لانقاذ البلد من خلال توجيهات المرجعية الرشيدة ؟
- الانتخابات الأمريكية البورصة الدولية التي تنتظر حبرها الاعظم
- ما دلالات الضربة الإسرائيلية لإيران؟