- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
النداء السيستاني الأخير... التغيير أو......
ابراهيم العبادي
منذ ان اختطت منهاجها الخاص بها في التعامل مع قضايا العراق، اكتفت مرجعية السيد السيستاني بتوجيه رسائلها ورؤاها وحلولها واقتراحاتها، بالحديث عن الاطر والمفاهيم العامة، ونادرا ما كانت تفصح عن آرائها، الا حينما يقتضي الامر ذلك، ويزول المانع الذي تتوجس منه خيفة على العراق، وحتى لا تنغمس في تفاصيل الشأن السياسي بصورة صارخة، فيتعود الناس ونخبهم الهرولة الى الزقاق الذي يسكنه السيد يطلبون الرأي في كل شيء بعد ان جمدوا عقولهم وافهامهم، واستقالت عندهم آلة الفهم والتحليل والترجيح.
في بداية سقوط النظام كان للسيد رأيه الصريح، في ان صياغة الدستور هي القاعدة التي يتأسس عليها النظام السياسي الجديد، فكان اصراره مخرجا للخلاص من ضغط مشاريع الاحتلال وحلا عقلانيا للفوضى وتعدد مشاريع المقاومة والمساومة والعنف المسلح والاقتتال الاهلي، في عام 2014 وبعد نداء الجهاد الكفائي لمواجهة خطر انهيار البلاد والسقوط امام جحافل التكفيريين، جاءت رسالة حزب الدعوة الاسلامية لسماحة المرجع، بمثابة الفرصة الاخيرة للخروج من حالة الانسداد السياسي، بين حق انتخابي ودستوري في تولي السيد نوري المالكي ولاية تنفيذية ثالثة وبين (فيتو) متعدد الاشكال داخلي وخارجي، في ظل اضطراب سياسي كبير ومخاطر امنية وسياسية، فكان جوابه صريحا ايضا، لحزب الدعوة باختيار رئيس جديد للوزراء، للخروج من المأزق ولانقاذ البلاد من تعثر خطير، في عام 2015 كانت المرجعية السيستانية تنطق بلسان حال الجمهور الغاضب المحبط، فنادت بالاصلاح السياسي والاقتصادي وتحدثت عن خطر الفساد الكبير الذي عطل البلاد، ونددت بالمحاصصة الحزبية والطائفية والقومية التي شلت الادارات وعطلت الانجاز الخدمي، واهدرت الاموال واسست لطبقية محفزة للعنف والانفعال والغضب، ودعمت رئيس الوزراء سرا وعلنا في مشروع الاصلاح، لكن هذا المشروع تعثر هو الاخر بفعل التعقيد السياسي والتنافر الحزبي وحماية الاحزاب والمتنفذين للفاسدين والانتهازيين والمتملقين، عديمي الخبرة والكفاءة والنزاهة، فوصلت الامور الى القطيعة بين الطبقة السياسية والجمهور، وتوجهت الانظار مرة اخرى الى النجف تنتظر اشارة الى سبيل النجاة من المأزق، وجاءت الخطبة - المانفيستو - الشهيرة قبيل الانتخابات، تدعو الشعب الى ممارسة حرية الاختيار وعدم الانصياع للاغراءات والضغوط وانتخاب الاصلح والنزيه الكفوء، واعتماد التعددية والانتخابات، سبيلا للحكم الرشيد، وان تمارس الامة ولايتها على نفسها بلا فقيه رقيب ولا ولي مسؤول، شريطة اختيار مفوضية مستقلة امينة على اصوات الجمهور وقانون انتخابي عادل يحترم ارادة الافراد ولا يكون مفصلا على مقاسات الاحزاب والقوى المتسلطة التي ما انفكت تعيد انتاج سلطاتها بالتحايل على الاصوات وبصياغات قانونية تعيد الاحزاب في كل مرة الى واجهة السلطة، لتتقاسم كعكة الحكم وتتوافق على السلطة والثروة، وتركت المرجعية الخيار للناس في ان يمارسوا حق الانتخاب او يمتنعوا بحسب قناعاتهم وارادتهم الحرة.
ومرة اخرى كانت الاحزاب والقوى المتنفذة تتصارع على الحكم عبر الصندوق الانتخابي وتتبادل الاتهامات بالتزوير، فتعطلت الاستحقاقات الدستورية وجاءت العقوبة من الجمهور، بمقاطعة ملفتة للاهتمام، وبرسائل غاضبة لا تخطئها العين البصيرة الواعية، لكن لم يتغير شيء في السلوك السياسي ودخلت الاحزاب والكتل لعبة التفاوض الماراثوني، واتضح للجمهور ان الحكومة وحدها لا تستطيع ان تجترح المعجزات وانها مكبلة بنظام اداري متخلف واعراف سياسية ثقيلة، ومحاصصات حزبية وقوانين بالية وبيئة سياسية معطلة،فكان الجمهور يتلقى كل هذه الرسائل منتظرا املا يلوح في الافق،لكن غضب مواسم الصيف العراقي وعجز اجهزة الخدمات واستعلاء الطبقة السياسية ونضوب الافكار والرؤى، واستمرار آليات العمل السياسي كما املاها الدستور (المشكلة)، كل ذلك اطلق تظاهرات الاحتجاج الاجتماعي، وهو احتجاج على النظام السياسي واحزابه ورموزه ودستوره ومجالس محافظاته وامتيازاته اللعينة وطبقيته المتعالية،في هذا المفصل جاء النداء السيستاني الاخير ليغطي التظاهرات ويمنحها شرعية الاستمرار والتطور في حال لم يحصل التغيير في السلوك السياسي العام، ويحدد مواصفات رئيس واعضاء السلطة التنفيذية، واولوية القوانين التي ينبغي ان يسنها البرلمان الجديد لالغاء التمايزات الطبقية والامتيازات السلطوية والغبن الاقتصادي - الاجتماعي، هذه المرة جاء النداء السيستاني صريحا ومسميا الاشياء باسمائها، حمل الطبقة السياسية الفشل المتراكم،ووضع الاحزاب امام الحقيقة المرة،اما ان تراجع سلوكها وافكارها وتعيد النظر بمساراتها او عليها مواجهة جمهور احتجاجي لن يتوقف عند مشكلات الماء والكهرباء وحق العمل والحياة المعقولة هذه المرة،ثمة تهديد وتحذير مبطن بان الجمهور سيكون معه الحق في تطوير اساليب الاحتجاج لفرض ارادته على الطبقة السياسية. نحن امام لحظة تاريخية شطبت فيها المرجعية السيستانية على نموذج سياسي فشل في القيام بوظائفه ومسؤولياته وخسر ثقة الجمهور واستحق اعتراض اعلى سلطة دينية - روحية لا غنى لجهة ما عن نيل تأييدها ودعمها للحصول على الشرعية السياسية قبل الشرعية الدستورية،انها لحظة مفصلية للمراجعة والتصحيح واعادة بناء النظام السياسي والدولة على اسس مفارقة لما اسسته خمس عشرة سنة من الممارسة السابقة، اسس لن يكون فيها وجود للحصص وممارسات للدفاع عن الفاسدين وحمايتهم وترشيح قليلي الخبرة والكفاءة وناقصي الحكمة لادارة السياسات العامة،المرجعية رسمت خارطة طريق لكشف المقصرين والمعطلين والمافيات التي اكلت المال العام واهدرت فرصا كبيرة لخروج العراق من محنته، لا اظن ان الطبقة السياسية تحتاج الى الجدل لتأويل كلام المرجعية او التملص من النقد الموجه اليها ولن يكفي لجهة بعينها الاعتذار بانها غير معنية، كون النداء السيستاني ليس موجها اليها،فليس تجربة الاحزاب الكردية والسنية بافضل من زميلاتها الشيعية، كلهم ساهموا في انتاج هذا الدستور والنظام السياسي المنبثق عنه، وكلهم شركاء في استحقاق سخط الجمهور والمرجعية، وامام العراق فرصة لدخول مسار جديد من الاعتدال والاعتذار والمراجعة والتصحيح، فليس بعد نداء المرجعية نداء افصح واشد لهجة.