حجم النص
شارك مساعد الأمين العام لمؤسسة الأمام الخوئي الخيرية في العراق من النجف الأشرف المؤتمر الدولي (النجف في التاريخ النجف منتجة للتاريخ ) وألقى كلمته بعنوان (مدرسة النجف ومحاولات الأنفتاح على الأديان السماوية والمذاهب الأسلامية) الذي عقده المعهد الفرنسي للشرق الأدنى و معهد العالم العربي في باريس للفترة من 21 الى 22 اذار الجاري
وحصلت وكالة نون الخبرية على نص الكلمة التي القاها السيد جواد الخوئي خلال المؤتمر الدولي ما نصه
لا يخفى أن اصلَ الرسالاتِ السماويةِ من مصدرٍ واحدٍ ، وأساسُها مكارمُ الاخلاقِ لجميع بني البشرِ .. وقد شرّع القرانُ الكريمُ قبولَ التعدديةِ والتصديقَ بكل الاديانِ والتواصلَ معها ، ونبذ الفرقةَ بين معتنقيها بقوله تعالى ( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)الشورى13 .. ومن خلالِ هذه الآيةِ الكريمةِ نُلاحظُ الشموليةَ والوضوحَ في التسامحِ بعيداً عن الصراعاتِ ، ولم يُخصصْ ديناً أو فئةً أو حضارةً معينةً ، بل يَعطي منهاج السبيل الواحد ...
وتطبيقاً للنهج السماوي في التوحد كان دورُ الداعيةِ الاولُ للرسالةِ الاسلاميةِ نبينا محمدٌ (ص) توجيهَ الأمةِ من خلال حديثه الشريف الذي اوجبَ اللهُ تعالى الالتزامَ بنصوصهِ حرفياً إذ قال ( خيرُ الناسِ من نفع الناس ) وهو نداءٌ شاملٌ للجميعِ ودعوةٌ الى عالمٍ تسودهُ المحبةُ والسلامُ والنفع العام .
ما أوَجزتهُ في مقدمتي منطلقٌ لرؤية مدرسة النجفِ .... تلك المدينةُ التي تشرّفت بمرقد رمزٍ عظيمِ من رموز الانسانيةِ الامام عليٍ بن ابي طالب عليه السلام ، حيثُ تأسست احدى أعرقِ وأقدمِ مؤسسةٍ دينيةٍ بجوارهِ على يد العلامةِ الشيخِ الطوسي (1201-1274م ) بعد عام من سيطرةِ السلاجقة على بغدادَ (عام 1224م ) والهجومِ على دارهِ وحرقِ كتبهِ مما اضطرهُ الى الهجرةِ للنجفِ لتكونَ الميدانَ الرئيسَ لنشاطهِ العلمي منطلقاً لبناء المؤسسةِ الدينيةِ وتنشئة جمهور من الفقهاء . ومنذ ذلك الوقتِ ظلت النجفُ تشكلُ مركزُ ثقلِ المسلمينَ الشيعةِ الامامية في العالمِ ومنها تتفرعُ الحوزاتُ الدينيةُ في العراقِ وخارجهِ. وبما ان جميع هذه الحوزاتِ تَدرسُ الفكرُ الشيعي وعقيدتُه الاساسية الايمانُ بإمامة علي بن ابي طالب(ع) وأولاده من فاطمةَ (ع). لذا اصبحت تشكلُ المظلةَ الروحيَة لكافةِ الحوزاتِ الاسلاميةِ الشيعية. وما تميزت به تلكَ المدينةُ ارثُها الحضاري والفكري والثقافي وأتبّاع الاسس التي وضعها أمير المؤمنينَ (ع) الذي بدوره يجسدُ روحَ الرسالةِ السماويةِ ونهجَ النبيِ الاكرمِ (ص) من خلال نظرته الايجابيةِ للجميعِ بعيداً عن انتمائهم وصنوفهم ، وخيرُ مصداقٍ على ذلكَ رسالتهُ وعهدهُ الى والي مصرَ مالكِ الاشتر، حين يطلب منه انصافَ الجميع من دون النظر لدياناتهم واتجاهاتهم فيصنفهم صنفانُ ( إما اخ لك في الدين او نظير لكَ في الخلق).
ومن تلكَ المفاهيمِ والقيمِ الدينيةِ النبيلةِ وضعت الحوزةُ العلميةُ في النجف الاشرف الاسسَ الرصينةَ لمناهجها وكان لها الاثرُ البالغُ في سلوكِ وأخلاقيات عُلمائِها ومراجعِها وأتباعهم. فقد أفتى احدُ كبارِ علماء النجف وهو السيد ابن طاووس الحلي(589-664هـ) حين قال :( الحاكمُ غيرُ المسلمِ العادلُ خيرٌ من المسلم الظالمِ ) وهذا يعني غض النظر عن ديانته ومذهبه ، وللإمام السيد محسن الحكيم المضمونُ نفسهُ. وفي مضمار آخر ، النص الوارد بكتابِ الروضةِ البهيةِ في شرح اللمعةِ الدمشقيةِ للشهيدِ الاول (734-786هـ) حين يقول ((من شرائط قصر السفر ان لا يكونَ السفر معصيةَ : قال الشهيد الاول ، في صلاةِ المسافر في شرط ألا يكون السفر معصية ، ما نصه : ( وألا يكون سفرهُ معصيةً بأن تكونَ غايتهُ معصيةً أو مشتركةً بينها وبين الطاعة ، أو مستلزمةً لها كالتاجر في المحرم والآبق والناشز والساعي على ضررٍ محترمِ ) . والمقصود من المحترم هو ضرر قوم من المسلمين بل والمحترمين من المُعاهد والذمّي ، إذن بالإطلاق يشمل الانسان المحترم المالِ والعرضِ والنفسِ من المسلمين وغيرهم .
ونجدُ الشيخَ الأعظم مرتضى الأنصاري ( 1214 – 1281 هـ) في كتابه فرائد الأصولِ ، رسالة الاستصحاب التنبيه الخامس حيثُ يحكمُ بجوازِ استصحابِ الحكمِ الشرعيِ القطعيِ من الأديانِ السماويةِ السابقةِ فيما لو لم يوجد حكمهُ في الشريعةِ الإسلاميةِ ونصّهُ : ( أنه لا فرق في المستصحب بين أن يكون حكما ثابتا في هذه الشريعة أم حكما من أحكام الشريعة السابقة ، إذ المقتضي موجود - وهو جريان دليل الاستصحاب - وعدم ما يصلح مانعا ) .
ومن جهابذة العلماء المتأخرين العلامةُ الشيخُ محمد جواد البلاغي ( 1865 ـ 1933 م ) الذي له مؤلفات كثيرة حول الاديان ومنها كتاب ( الرحلة المدرسية او المدرسة السيارة) إذ اهتم بقراءة النصوص المقدسة لسائر الأديان من مصادرها الأصلية وأحيانا بلغاتها القديمة ومنها اللغة العبرية ، وكانت له مراودات وعلاقات مباشرة مع اليهود والمسيحيين في مناطق مختلفة من العراق مثل مناطق : ذي الكفل وبغداد و... واجتنب في مؤلفاته عن استخدام أي مساس بباقي الاديان والمذاهب ، بل التزم بالموضوعية والإنصاف العلمي .
وهناك تفسيرُ لجدنا المرجع الإمام السيد أبو القاسم الخوئي (1899- 1992م) حول المقصودِ بالمشركِ في الآيةِ القرآنية الكريمة { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } التوبة 9/28 حيثُ قال : ( أنَّ الشرك له مراتب متعددة لا يخلو منها غير المعصومين وقليل من المؤمنينِ ومعه كيف يمكن الحكمُ بنجاسةِ المشرك بما له من المراتب المتعددة ؟ فان لازمهُ الحكمُ بنجاسةِ المسلم المرائي في عمله ، حيثُ أنّ الرياءَ في العملِ من الشركِ وهذا كما نرى لا يمكن الالتزام به فلا مناص من أن يراد بالمشرك مرتبةُ خاصةٌ منه وهي ما يقابل أهل الكتاب ... فالإنصاف أن الآية لا دلالة لها على نجاسة المشركين ، فضلاً عن دلالتها على نجاسة أهل الكتاب ) . لتفصيل أكثر راجع (موسوعة الإمام الخوئي ج3 ص 38 كتاب الطهارة ) .
وما يثبت حرص النجف على الحوار المتواصل والتركيز على العدالة الاجتماعية وبدون تعصب وليس بالكلام والكتابات فقط ، حين يفتي المرجع الأعلى للمسلمين الشيعة في زماننا الحاضر الامام السيد علي السيستاني في كتاب ( منهاج الصالحين ج1 ص 139) وكذلك باقي مراجع الحوزة العلمية في النجف الاشرف .. الى طهارة أهل الكتاب وهذا هو الرأي المشهور عند المتأخرين من الفقهاء .
أما لدور النجف في التقريب فهناك قائمة طويلة من العلماء .. فأول من اقتدى بأساتذته والسلف الصالح في التقريب بين المذاهب الإسلامية الشيخ الطوسي ، حيث ألّف كتاباً في مسائل الخلاف على اثر استاذه العلامة الشريف المرتضى (966-1044م) ، وفي مشروع دار التقريب التي كان أعمدتها العلامة المرجع الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (1294-1373 هـ) ، والشيخ عبد المجيد سليم شيخ الأزهر آنذاك ، وعقدت الزيارات المكوكية والمؤتمرات ، منها المؤتمر الإسلامي الذي انعقد في مدينة القدس الشريف عام 1931م حيث أمََّ كاشف الغطاء المصلين في مسجد الأقصى المبارك. كما سافر أيضاً لنفس الغاية إلى دمشق وبيروت والقاهرة وفلسطين وكراتشي وطهران إضافة إلى الديار المقدسة في الحجاز وأمّ المصلين خلالها في الحرم المكي وخطب فيهم .. ومن الأسماء البارزة اللذين لهم في مجال التقريب الأبحاث والمناظرات والتي شاركت ببحوثها القيّمة التي نشرت في مجلة رسالة الإسلام (التي صدر العدد الأول منها سنة 1949م ، واستمر بالصدور حتى العدد 60 ألذي صدر سنة 1972م) مجموعة من العلماء وعمالقة الفكر والبحث أذكر منهم : الشيخ محمد رضا الشبيبي ، والسيد هبة الدين الشهرستاني ، والسيد صدر الدين الصدر ، والشيخ محمد جواد مغنية (1322ﻫ ـ 1400ﻫ) الملقب (بقلم الشيعة) وصاحب كتاب الفقه على المذاهب الخمسة ، والسيد مسلم الحسيني الجلبي ... ويذهب العلامة السيد محمد تقي الحكيم (1922 – 2002 م ) الذي عُرف في العالم الاسلامي ببحوثه المقارنة في الفقه والأصول وألّف كتاباً قيّماً (الاصول العامة للفقه المقارن ) والسيد مرتضى العسكري مؤلف كتاب معالم المدرستين بثلاثة اجزاء ومؤسس كلية اصول الدين في مجمله محاولة تقريبية فكرية فريدة يقل نظيرها ... وكان للسيد الشهيد محمد باقر الصدر (1933-1980م) في التقريب من خلال بحوثه ومؤلفاته ، دوراً ريادياً معروفاً لدى الجميع في هذا المجال .
ويعتبر الشيخ محمد رضا المظفر (1322- 1383 هـ)مؤسس كلية الفقه في النجف من رواد التجديد في المسار الفكري اذ يعتبر ثقافة الحوار امانة علمية يجب الخوض بها وله المقولة (ان التقريب هي كلمة مباركة وان جميع الانبياء بعثوا من اجل التقريب داعيا الى ازالة الفهم الخاطئ عن التقريب، فالتقريب لا يعني ان يصبح الشيعي سنيا او السني شيعيا . وتابع ان التقريب يعني الا يلجأ الناس الى التعصب في التعامل مع احدهم للآخر ، لان جذور جميع الاخفاقات تكمن في التعصب وان التعصب هو نتيجة الجهل وان الذين لا يعرفون الروح المعمّقة للإنسان ، ولا علم لهم بالأخلاق ، يمارسون التعصب) ... والى اليوم القريب وأثناء لقاء السيد السيستاني بمجموعة من علماء السنة والشيعة أكد بأن ( لا تقولوا اخواننا السنة بل قولوا انفسنا ) .
وآخر النشاطات التي احتضنتها مدينة النجف ، وإيمانا منها بضرورة نشر ثقافة الحوار والتعايش السلمي ، تبنّت مؤسسة الإمام الخوئي الخيرية مع رهبنة الاباء الدومينكان في العراق ومؤسسة مسارات للتنمية الثقافية والإعلامية .. تأسيس المجلس العراقي لحوار الاديان ؛ غايته إجراء حوار عقلاني بين كل أطياف الشعب العراقي . وجاء هذا المشروع نتيجة لدراسة معمّقة وطويلة للمشكلات الاجتماعية في مجال التعايش والتسامح في العراق ، وهو مشروع فكري يهدف إلى تأسيس وتنمية هوية عراقية عقلانية جامعة لكافة أطيافها ومبتنية على أسس ومبادئ التسامح والتعايش وقبول الآخر، ويتم عبر إيجاد منظومة واسعة من الاتصالات بين النخب الفكرية ذات الامتدادات الاجتماعية في المجتمع العراقي .
ومن خلال ما تقدمت به لم نشاهد في حوزة النجف الاشرف من علماء ومراجع أي فتوى فيها إساءة أو توهين أو اقصاء أو تهميش لباقي الاديان والمذاهب، بل العكس فهناك فتوى للإمام الخوئي بحرمة سب وتوهين المقدّسات والرموز الدينية لأتباع الأديان الاخرى... ومن يفد الى النجف يجد الترحاب ، حيث لايخلو مرقد الامام علي (ع) من الزوار المسلمين من باقي المذاهب وكذلك غير المسلمين وهذه خصوصية غير موجودة في كثير من الدول الإسلامية ، وأما من يلاحظ مكتباتهم يجدها غنية بمؤلفات اتباع الأديان والمذاهب الاخرى ويباع الكثير منها بشكل ملحوظ ..... وعلى هذا النهج تبقى مدرسة النجف الأشرف بحوزتها العلمية على خطى علمائها ومراجعها حاضنة للجميع ..
ومن منبركم هذا نؤكد سعينا للتواصل مع كل محب للسلم والوئام والحياة الكريمة لبني الانسان مهما كان دينه ومشربه والسلام عليكم .
وكالة نون خاص
أقرأ ايضاً
- وفد أكاديميي وخريجي كلية الفقه في النجف يحطون رحالهم في المركز الحسيني للدراسات في كربلاء
- المركز الوطني لعلوم القرآن يقيم مسابقة طلبة الجامعات العراقية القرآنية الوطنية الاولى المؤهلة للمسابقات الدولي
- كربلاء : إنعقاد حلقة نقاشية حول قطاع التمور في العراق من قِبل مركز التجارة الدولية (ITC)