- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
إطلالة على عالم الشهداء.. عن ثقافة الاستشهاد وقصور الجانب الأدبي وتأخر التوثيق
بقلم: علي الراضي الخفاجي
لقد ظلمت الفلسفات المادية الإنسان إلى حد كبير عندما جعلته يظنُّ أنه مخلوق للدنيا، فغرستْ فيه الشعور بالتفاهة، وقوقعته في محدودية لايأملُ منها نيل الجزاء والخلود، وكما عبَّر عنهم القرآن ((وقالوا ماهي إلا حياتنا الدُّنيا نموتُ ونحيا ومايهلكنا إلا الدَّهر ومالهم بذلك من علمٍ إنْ هُمْ إلا يظنُّون)) الجاثية/24، فالإنسان ليس سرمدياً ولكنه أبديٌّ، فقد أكدت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في خلود أهل الجنة في الجنة وخلود أهل النار في النار، وعلى الرغم من وجود الدوافع وتوفر الاستعدادات للتضحية في بلدنا العراق في الماضي والحاضر والمستقبل، ولكن مايظهر على الساحة أنَّ الأجواء ينقصها الإثراء في مجال التوثيق والأعمال الدرامية، وأقصد بذلك قلة ماكُتب من القصص وأُنتج من الأعمال الفنية المرئية والمسموعة، فقد أفرزت التضحيات الكثير من المعاني والأدبيات التي تستحق الاهتمام لما قُدِّمَ من قرابين تفوق الإحصاء في طريق الحرية والكرامة ضد حقبة القمع والاستبداد، وإنْ كانت العتبتان المقدستان الحسينية والعباسية قد أوْلتا اهتماماً بالبحث والتوثيق في هذا الجانب، وملأتا فراغاً كبيراً من خلال إصدار موسوعات بهذا الشأن، وكان لهما قصبُ السَّبق، ولكنْ هل يكفي ذلك؟
لقد عانى أهل العراق ماعانوا وقدموا ماقدموا، ومع ذلك فماكُتب عنهم قليلٌ، ولاأدري هل هو الابتعاد عن التفاخر؟ أم أنَّ التضحية أصبحتْ عندهم حالة طبيعية على مدى العصور أوصلتهم إلى أن يزهدوا في الحديث عنها؟
ففي الحديث عن عالم الشهداء يكفينا في هذه السطور أن نتأمل في الآية الكريمة((ولاتحسبنَّ الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتاً بلْ أحياءٌ عند ربِّهمْ يُرزقونَ فرحينَ بما آتاهُمُ اللهُ من فضله ويستبشرُونَ بالذين لمْ يلحقُوا بهم منْ خلفهم ألَّا خوفٌ عليهمْ ولاهُمْ يحزنُون))آل عمران/169-170، ففي الآية ومضاتٌ في كلماتٍ تُصوِّرُ لنا مشهداً برزخياً، وهي(لاتحسبن)،(يرزقون)،(فرحين)،(يستبشرون) حيث تُجسِّدُ لنا لقطات فنية لاتقارن بالمعاني التي نعيشها في الحياة الدنيا، فقد أراد الله سبحانه وتعالى في هذه الآية في قوله (لا تحسبن) أن يُذكِّر البعض بخلاف مايتصورونه من أنَّ الشهادة خسارة، وبأنْ لايذهبوا بعقولهم وخيالهم القاصر إلى ذلك ويحسبون الشهداء أمواتاً بلا نشاط وحركة، وسبب اعتقاد الإنسان بذلك لأنه مُكبَّلٌ بالغرائز وغارقٌ في المطامح، وبالحواس الخمس التي يستشعر بها أشياء مادية، وهذه تعجز عن معرفة ماوراء إدراكها، فالشهداء أحياءٌ عند ربهم في حياة أرقى وأرحب، جزاءً لرفضهم مجاراة تيار الانحراف ومقاومتهم للشيطان، حيث يرزقون من نعيم الجنة بأفضل ماكانوا يتنعمون به في النشأة الأولى، وفرحين بما آتاهم الله من فضله لما يشعرون به من فضل وتقدم على غيرهم، ويستبشرون بالذين تخلفوا عنهم أنهم سيلحقوا بهم في قوافل الشهداء ليتنعموا مثلهم، ويحظوا بما نالوا ليتخلصوا من براثن المادة وزخارف الدنيا، فلاخوف عليهم كما كانوا يخافون من زوال النعمة، ففي الجنة لاتوجد خسارة، كما لايوجد ألم، فإنَّ فيها نعيماً لارأتهُ عينٌ ولاسمعتْ به أُذُنٌ، ولاخطرَ على قلب بشر كما ورد في حديث قدسي، ومهما حلَّق الخيال بهذا الوصف فإنه يبقى عاجزاً، ولاحتى خيال الشاعر الذي يصنع من المعاني صوراً وحكايات، يقول تعالى ((وإذا رأيتَ ثمَّ رأيتَ نعيماً ومُلكاً كبيراً)) الدَّهر/20، فالله تعالى هو المنعم وهو المالك وهو المَلِكُ وهو منْ يَهَبُ المُلْك.
إنَّ حياة الشهيد في الجنة حياة خاصة ليست كمصير منْ يموت حتف أنفه، لذا لايمكن أن نقول عن كل ضحية أنه شهيدٌ إلا أن تكون شهادته مُلْهِمَة، وموجَّهة نحو هدف لايطرأ عليه الشك والتردد، كما تكون شهادته استجابة لدعوة السماء وصرخة المظلوم، فكمْ وكمْ من الناس قضوا في حروب خاسرة وفتن صمَّاء عمياء، وذهبتْ ذكراهم أدراج الرياح.
وقد يُنسى الشهيد، ولكن ذكراه تستجدُّ كلما تجدَّد الصراع بين الحق والباطل، وكلَّما استفحل الظلم وقلَّ الناصر، ولذا يتذكَّرُ الغافلون من الناس أهمية الشهيد بعد رحيله، ويغيبُ عن أكثرهم قَدْرَهُ حينما كان معهم، فالمشكلة تكمن في الذهنية البشرية أنها لاتستطيع تصور غير المحسوسات، لذا تكون بعيدة عن تصور الماورائيات، وقلَّما وقف الإنسان ليحلل حقيقة الموت والحياة، وإنما كان همُّهُ استغلال أكبر قدر ممكن من متاع الدنيا، ويهرب ما أمكنه من الموت، مع أنَّ الحياة عبارة عن مسيرة محدودة والموت مصير محتوم، ومع أنَّ الموت سابق للحياة ومترتب عليه كما هو معلوم ((خلق الموت والحياة)).
الشهيد هو منْ يُفسِّرُ لك معنى الموت والحياة، ويُفلْسِفُ لك الموت أنه صحوة العقل والضمير لبلوغ حياة حقيقية مليئة بالنشاط والحيوية ((وإنَّ الدَّارَ الآخرةَ لَهِيَ الحَيَوانُ لو كانوا يعلمُون)) العنكبوت/64، وأنه انتقال من مرحلة أدنى إلى مرحلة أعلى بكثير، وهو حينما يَقْدِمُ على الشهادة يثبتُ لك أنَّ قيمة الإنسان أغلى من الدنيا مهما كبُرَتْ.
ومايختلف به الشهيد في طموحه عن الآخرين أنه يعبر المادة ويتحكم في الغريزة لبلوغ ماهو أرقى وأدوم، فلا يتساوى طموحه مع طموح من يطلب الرئاسة والزعامة وينزع إلى حب البقاء، لذا تكون الآخرة هي أكبر مطامحه، فتراه يترك ماوراءه من منصب وشهرة، وكل ما يستجيب لأنانيته، وهو ماحذر منه جلَّ وعلا الإنسان بقوله: ((إنَّما أموالُكُمْ وأولادُكُمْ فتنة)) التغابن/15.
ومهما اعتقد الإنسان أنَّ سعيه في الدنيا يحصل به على الكمال إلى أقصاه فهو لايعدو أنْ يكون وهماً، بل ينقله للحصول على ماهو أكمل، ومهما ارتقى فإنه يوصله إلى ماهو أرقى، فإنَّ الشعور بالحاجة والنقص تبقى تلازمه، وهذه حقيقة مؤكدة.
كما أنَّ الشهادة ليست من الأماني، فلا ينالها إلا ذو حظ عظيم، ولابُدَّ لها من مؤهِّلات، فبما أنَّ الشهيد ليس إنساناً غائباً عن الواقع ولاهامشاً في الأحداث والوقائع، وليس غارقاً في الملذات والتَّرف، فإنه لا ينالُ هذه الكرامة إلا بعد أن يلقى ألواناً من الابتلاء، يقول تعالى ((وليعلمَ اللهُ الذينَ آمنُوا ويتَّخذَ منكُمْ شهداءَ واللهُ لايحبُّ الظالمين)) آل عمران/140.
ولاتختلف مهمَّة الشهيد عن مهامِّ الأنبياء، والتي أهمُّها التذكير؛ لمعالجة مايصيب الإنسان من الغفلة والنسيان، يقول تعالى عن هذه الحقيقة ((وإذا ذُكِّروا لايذكرُون)) الصَّافات/13، و((إنَّ هذه تذكرةٌ فمنْ شآءَ اتَّخذَ إلى ربِّه سبيلاً)) المزَّمل/19، وفي الوقت نفسه مدح سبحانه وتعالى منْ كان له آذان صاغية فقال عزَّ ما قائل ((لنجعلها لكم تذكرةً وتعيها أذنٌ واعيةٌ)) الحاقَّة/12.
وقد قدَّر سبحانه أن يكون الشهيد قدوةٌ وأسوةٌ لما أودع فيه من قدرة على النفوذ في أعماق الإنسان،((لقد كان لكمْ في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ))الأحزاب/21، ((لقد كانتْ لكُمْ أسوةٌ حسنةٌ في إبراهيم والذين معه)) الممتحنة/4 ((لقد كان لكُمْ فيهم أسوةٌ حسنةٌ لمنْ كان يرجو الله واليوم الآخر)) الممتحنة/6، ولولا الشهداء لضاعت المبادئ والقيم واندثرت الرسالات، فَهُمْ منْ يقفُ ضد الانحراف، ويكشف مكنون مايحمله الإنسان من طاقات وفطرة للعودة إلى الرُّشد والصَّواب، كما كان الإمام الحسين عليه السلام يُخاطبُ الناس في كربلاء (عودوا إلى أنفسكم)، أي إلى فطرتكم وعقولكم وضمائركم وإراداتكم التي صادرها الطاغوت، ومابرح الهوى والشيطان يسلخها عنكم، وإلى هذه الحقيقة يُشيرُ الإمام عليٍّ عليه السلام بقوله:(فبعث اللهُ فيهم رُسُلَهُ وواترَ إليهمْ أنبياءَهُ ليستأدُوهُمْ ميثاقَ فطرته ويذكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمتِهِ، ويَحْتجُّوا عليهمْ بالتَّبليغ ويثيرُوا لهمْ دفائنَ العقُول) نهج البلاغة، 1: 23.
أقرأ ايضاً
- الامام الحسن (ع) يقسو على ابن العاص
- معالم الشخصية المنافقة والحديث عن أزمة الثقة
- العبادي يكتب: "فليستعد العالم للجحيم"