بقلم: القاضي منجد فيصل غازي
يستعرض هذا المقال ثلاثة من المفاهيم الجديدة التي دخلت في المنظومة الجنائية العراقية مؤخرا لكن النص التشريعي ذكرها بشكل سريع ودون ان يورد لبعضها تعريف او يذكر لبعضها الآخر تفصيل او حتى منحها آلية التعامل مع الوقائع مما يجعلها غير قادرة على تقديم معالجة جنائية ناجعة وشاملة للمخالفات التي تقع في نطاقها ويمكن ايجازها بما يلي:
اولاً: جريمة الرشوة في القطاع الخاص
وردت الإشارة الى هذه الجريمة في التعديل الأول لقانون هيئة النزاهة رقم 30 لسنة 2011 عندما ذكر لأول مرة في المادة (2/ثالثا/ب/2) جرائم الرشوة في القطاع الخاص الوطني والاجنبي في الاعمال المتعلقة بالقطاع العام وجرائم رشوة الموظف الأجنبي وهنا حقق هذا النص نقلتين نوعيتين في المعالجة الجنائية لهذه الحالة، الأولى عندما أشار الى مفهوم جريمة الرشوة في القطاع الخاص لأول مرة في القانون العراقي اذ درجت التطبيقات القضائية احيانا ولسد النقص التشريعي في هذا المجال على اعتبار ذلك الفعل من قبيل جرائم خيانة الأمانة وفق احكام المادة 453 من قانون العقوبات التي اعتبرت ما يحدث من جرائم من ذلك النوع في القطاع الخاص شكلا من اشكال خيانة الأمانة، تلك الأمانة التي يفترض ان يتحلى بها اي انسان اثناء أداء عملة الخاص خارج نطاق الوظيفة العامة اما الانتقالة النوعية الثانية هي اعتبار تلك الجريمة من الجرائم التي تختص هيئة النزاهة بالتحقيق فيها وهي مسألة روعي فيها النظرة الجديدة للقطاع الخاص واهميته وتأثيره على القطاع العام واعتبار ذلك القطاع شريك اساسي في بناء الدولة وان الجرائم والمخالفات القانونية التي تقع فيه لها تأثير واضح على مجمل الجهاز الاداري للدولة إضافة الى متطلبات الحوكمة الرشيدة التي تتطلب اعلى درجات الشفافية في كافة مفاصل واعمال القطاع الخاص وما يدور داخل الشركات وعلاقة مجالس اداراتها بالمساهمين والمدراء المفوضين والعاملين وكذلك المنافسين واهمية ان تجري اعمال القطاع الخاص عبر وسائل قانونية سليمة.
الا ان هذه الإشارة السريعة في قانون النزاهة والكسب غير المشروع لم نجد بعدها أي تفصيل في ذلك القانون يتعلق بتلك الجريمة فيما يخص الإجراءات او العقوبات سواء تلك التي تقع على الافراد او على الشخص المعنوي او العقوبات التبعية او من له صلاحية تحريك الشكوى ومدى امكانية الاعتماد على سجلات واوراق الشركة او التاجر او كيفية الوصول اليها كوسيلة لإثبات وقوع الجريمة وهذا يفرغ النص من مضمونه عدا ما ذكر من ربط تلك الجريمة بمشاريع القطاع العام او الموظف الأجنبي وهو تقييد اضافي على هذا النص اذ كان من المستحسن للمشرع الإحاطة بشكل أكبر بالموضوع وشمول افعال اخرى بنطاقه حتى وان كان جميع الاطراف هم من اشخاص القطاع الخاص خصوصا ان هناك العديد من شركات القطاع الخاص وتلك العاملة في مجال الاستثمار تقدم خدمات عامة لجميع المواطنين وهذا ما ذهبت اليه اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد التي جرمت ثلاث صور للفساد في القطاع الخاص وهي (الرشوة،الاختلاس،غسل العائدات الجرمية).
ثانيا: تضارب المصالح
اما المفهوم القانوني الثاني الذي أورده التعديل الأول لقانون هيئة النزاهة والكسب غير المشروع رقم 30 لسنة 2011 وذلك في المادة (2/ثامنا) منه هو جريمة (تضارب المصالح) وقد عرفه بأنه كل حال يكون به للمكلف او زوجه او أولاده او من له صلة قرابة الى الدرجة الثانية مصلحة مادية تتعارض مع منصبه او وضيفته الا ان القانون بعد ذلك لم يتناول تلك الجريمة بشيء من الاحاطة او التفصيل ولم يتحدث عن ماهية تلك المصلحة التي ممكن ان تكون أساسا لذك التضارب بعكس ما نجده في التشريع المصري اذا صدر قانون مستقل بهذا الخصوص سمي بقانون تعارض المصالح للمسؤولين بالدولة رقم 106 لعام 2013 ولكن عند البحث يمكن أن نجد بعض الإشارات لجريمة تضارب المصالح في نصوص او تعليمات غير مباشرة في التشريع العراقي اذ نجد ذلك واضحا في قانون المرافعات المدني رقم 83 لعام 1969 وان لم يورد القانون صراحة هذا المفهوم فقد ذكرت المادة 91 على انه لا يجوز للقاضي نظر الدعوى في الأحوال التالية:
(إذا كان زوجا او صهرا او قريبا لأحد الخصوم للدرجة الرابعة.... الخ ) كما ورد في المادة (5) من قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1971 التي تنص على (إذا تعارضت مصلحة المجني عليه مع مصلحة من يمثله.... فعلى قاضي التحقيق او المحكمة تعين ممثلا عنه) كذلك نجد إشارة الى مضمون تضارب المصالح في قانون انضباط موظفي الدولة والقطاع العام رقم 14 لعام 1991 التي أشارت الى واجبات الموظف الأساسية ومنها ما حظر على الموظف من الاشتراك بالمزايدات التي تجريها الدولة إذا كان مخولاً قانونا بالتصديق على البيع وكذلك حظر الاقتراض من المراجعين او المقاولين او المتعاقدين مع دائرته كما ان (تعليمات قواعد السلوك الخاص بموظفي الدولة القطاع العام منتسبي القطاع المختلط) رقم 1 لسنة 2006 الصادرة عن هيئة النزهة وقد عالجت بعض حالات تضارب المصالح اذ حظرت تلك التعليمات على الموظف الدخول في أي تعاملات مالية تودي الى تضارب المصالح ومنها المشاركة في أي عمل إداري يكون من اختصاص الموظف وفيه له او لعائلته مصلحة شخصية او استخدام المعلومات غير المتاحة للجمهور للكسب الشخصي.
كما ان قواعد السلوك المهنية لموظفي إقليم كردستان العراق عرفت هذه الجريمة بأنها (تغليب المصلحة الشخصية على المصلحة العامة عند وجود أي تعارض فعلي او محتمل او ظاهري بين هاتين المصلحتين والتي تتضح عندما يتمتع الموظف بميزة او يبدو انه يتمتع بميزة من موقعه الوظيفي لصالح نفعه الخاص) وقد كانت قواعد السلوك المهنية لموظفي إقليم كردستان العراق اكثر دقة في تعريف الجريمة مما ورد في قانون هيئة النزاهة والكسب غير المشروع وذلك عندما أشارت الى أنواع المصالح المتعارضة وتحدثت عن التعارض الحقيقي والظاهري والاحتمالي وهذا التفصيل والتفريق بين تلك المصالح نجد له أثرا في تمييز جريمة تضارب المصالح عن جريمة الرشوة اذ ان ما يميزهما هو عنصر (الاتجار بالوظيفة العامة) الذي يجعل منها سلعة يستطيع ان يحصل عليها أي شخص يدفع الثمن وهو ما يقوم به الموظف المرتشي في جريمة الرشوة اما في جريمة تضارب المصالح فان أساس التجريم هو تعارض المصالح الخاصة للموظف نفسه مع المصلحة العامة وكذلك نجد اثرا لبيان ماهية المصلحة في تمايز جريمة تضارب المصالح مع جريمة استغلال النفوذ فالركن المادي للجريمتين مختلف والملاحظ ان المادة 19/سابعا اشارت الى عقوبة الحبس لكل من يتخلف عن ازالة التعارض بين المصالح خلال مدة معينة الا ان ذلك النص جاء مقتصرا على حالة واحدة ولم يورد صورا عديدة اخرى من هذه الجريمة كما لم يتطرق للضوابط القانونية التي تعمل على الحد من تضارب المصالح كإجراءات فصل ملكية الموظف عن ادارة الحصص والاسهم في الشركات وكذلك منع تقديم الخدمات الاستشارية من قبل الموظف والتأكيد على عدالة السعر الذي يشتري به الموظف عقارات او منقولات من الدولة وكذلك عدالة نسبة الفائدة في القروض التي يحصل عليها من المصارف الأهلية.
ثالثاً: التأجير التمويلي (الليزنغ)
وردت اول إشارة الى هذا المفهوم في القانون العراقي في المادة 1/ثامنا/ج من قانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب رقم 39 لسنة 2015 ذلك عند تعريفها للمؤسسة المالية التي تخضع لهذا القانون وتناولها للنشاطات التي تقوم بها تلك المؤسسة والتي تميزها عن غيرها من النشاطات لكن أيضا دون ايراد لأي تعريف لماهية التأجير التمويلي وكذلك لم يشر القانون الى الجهة المسؤولة عن ترخيص نشاط مؤسسات التأجير التمويلي. وعند الرجوع الى القانون المدني العراقي او قانون ايجار العقار لا نجد أي ذكر لهذا النوع من العقود والذي يمكن توضيحه بشكل مبسط بمثال انه عندما ينوي طرف ما شراء معدات جديدة لمشروعه او خطوط انتاجية جديدة لمصنعه فقد يحتاج الى مبلغ كبير من المال لذلك يقدم طلب لأحدى المؤسسات المالية المختصة بالتأجير التمويلي سواء كانت بنك او شركة تأجير تمويلي لتمويل لشراء تلك التجهيزات او بناء بعض الأبنية واذا وافقت تلك المؤسسة يصار ان تقوم بدورها بالتعاقد مع طرف ثالث لتوريد او تجهيز او تأمين الشيء المطلوب للمستأجر وتقتضي طبيعة هذا العقد ان تمتلك المؤسسة المالية هذا المال على ان تملكه لصاحب المشروع عند نهاية العقد مقابل دفعات دورية يدفعها صاحب المشروع الى المؤسسة المالية وقد اختلف الفقه في الطبيعة القانونية لعقد الايجار التمويلي لكن ما ذهبت اليه اغلب الآراء هو اعتباره عقدا مركبا ينطوي بحقيقته على عقدين عقد ايجار يتم بين مؤجر ومستأجر وعقد بيع بين بائع ومشتري لاحقا كما انه عقد ثلاثي الأطراف واطرافه مؤجر ومستأجر ومورد.
وحيث ان قانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب وان جاء بهذا المفهوم الجديد في القانون العراقي الا انه يبقى قانون جزائي غير معني بإيراد تعريف لمثل هكذا نوع من العقود او تبيان لأحكامه التي تعتبر في النهاية من ضمن النشاطات التي تغطيها القوانين المدنية وعند الرجوع الى القانون المدني العراقي هو قانون صدر قبل حوالي سبعة عقود فانه بالتأكيد غير مواكب لمثل هذا النوع من العقود الذي فرضته الأنشطة المالية الحديثة وبالتالي لم تعالجه احكام ذلك القانون لكن اللافت ايضا اننا لم نجد أي نصوص او تعليمات صادرة من البنك المركزي فيما يتعلق بآلية ترخيص هذا النشاط وكيفية الحصول على رخصة ممارسة نشاطه وكذلك نفس الحال فيما يتعلق بدائرة مسجل الشركات حيث لا نجد نص قانوني او ضوابط توضح كيفية الحصول على شهادة تأسيس لمثل هذا النوع من النشاط وهذا يحتم سرعة سد ذلك النقص التشريعي عبر اكمال مشروع قانون التأجير التمويلي الذي يعمل على اعداده البنك المركزي بالتعاون مع مؤسسة التمويل الدولية
تلك بعض المفاهيم القانونية المهمة التي دخلت الى المنظومة التشريعية العراقية منذ وقت قريب لكن بشكل مختصر وغير وافي وبالتالي فإن هناك حاجة مُلحة لتدخل تشريعي يمنح تلك النصوص الإحاطة الكاملة على الوقائع التي تنضوي تحتها كي يتحقق الهدف المرجو من تشريعها أصلاً.
أقرأ ايضاً
- الأطر القانونية لعمل الأجنبي في القانون العراقي
- المستهلك العراقي وحقه في الحماية القانونية
- هل تتعرض الأهوار لحملة إبادة جديدة ؟