- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
لا تدركه الأبصار السلام عليك يا جعفر بن محمد الصادق
علي فضيله الشمري
ذهب بعض أبناء الفِرق الاسلاميّة الى أنه جلّ شأنه يُرى بالبصر في الآخرة فقط، أو في الدنيا والآخرة معاً وما زال أهل البيت - لا سيّما الامام الصادق عليه السلام - يبطلون هذه النسبة ويمنعون عليه تعالى الرؤية، وسوف نورد بعض الحجج من كلامه(ع).
قال هشام: كنت عند الصادق عليه السّلام إِذ دخل عليه معاوية بن وهب وعبد الملك بن أعين فقال له معاوية بن وهب: يا ابن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) ما تقول في الخبر الذي روي أن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) رأى ربه، على أي صورة رآه ؟ وعن الحديث الذي رووه أن المؤمنين يرون ربّهم في الجنّة على أيّ صورة يرونه ؟ فتبسّم عليه السّلام ثمّ قال: يا معاوية ما أقبح بالرجل يأتي عليه سبعون سنة أو ثمانون سنة يعيش في مُلك اللّه ويأكل من نعمه ثمّ لا يعرف اللّه حقّ معرفته، ثمّ قال عليه السّلام: يا معاوية إِن محمّداً صلّى اللّه عليه وآله لم يَر الربّ تبارك وتعالى بمشاهدة العيان وأن الرؤية على وجهين: رؤية القلب، ورؤية البصر، فمن عنى برؤية القلب فهو مصيب ومن عنى برؤية البصر فقد كفر باللّه وبآياته لقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: من شبّه اللّه بخلقه فقد كفر، ولقد حدّثني أبي عن أبيه عن الحسين بن علي عليهم السّلام قال: سئل أمير المؤمنين عليه السّلام فقيل: يا أخا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله هل رأيت ربّك ؟ فقال: وكيف أعبد من لم أره، لم تره العيون بمشاهدة العيان، ولكن رأته القلوب بحقائق الايمان، فإذا كان المؤمن يرى ربّه بمشاهدة البصر فإن كلّ من جاز عليه البصر والرؤية فهو مخلوق، ولا بدّ للمخلوق من الخالق، فقد جعلته إِذن محدثاً مخلوقاً، ومن شبّهه بخلقه فقد اتخذ مع اللّه شريكاً، ويلَهُم أَوَلم يسمعوا بقول اللّه تعالى «لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير»(الأنعام: 103) وقوله «لن تراني ولكن انظر الى الجبل فإن استقرّ مكانه فسوف تراني فلمّا تجلّى ربّه للجبل جعله دكّاً»(الأعراف: 143) وإِنما طلع من نوره على الجبل كضوء يخرج من سمّ الخياط فدكدكت الأرض وصعقت الجبال فخرّ موسى صعقاً - أي ميّتاً - فلمّا أفاق وردّ عليه روحه قال: سبحانك تبت اليك من قول مَن زعم أنك تُرى ورجعت الى معرفتي بك أن الأبصار لا تدركك، وأنا أول المؤمنين وأول المقرّين بأنك تَرى ولا تُرى وأنت بالمنظر الأعلى.
ثمّ قال عليه السّلام: إِن أفضل الفرائض وأوجبها على الإنسان معرفة الربّ، والإقرار له بالعبوديّة، وحدّ المعرفة أن يعرف أنه لا إِله غيره، ولا شبيه له ولا نظير، وأن يعرف أنه قديم مثبت موجود غير فقيد، موصوف من غير شبيه ولا مبطل، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وبعده معرفة الرسول والشهادة
بالنبوّة، وأدنى معرفة الرسول الإقرار بنبوّته وأن ما أتى به من كتاب أو أمر أو نهي فذلك من اللّه عزّ وجل، وبعده معرفة الإمام الذي تأتمّ به بنعمته وصفته واسمه، في حال العسر واليسر، وأدنى معرفة الإمام أنه عِدل النبي إِلا درجة النبوّة ووارثه وأن طاعته طاعة اللّه وطاعة رسول اللّه والتسليم له في كلّ أمر، والردّ اليه والأخذ بقوله.
ثمّ أنه أورد على معاوية ذكر الأئمة وأسمائهم، ثمّ قال: يا معاوية جعلت لك أصلاً في هذا فاعمل عليه، فلو كنت تموت على ما كنت عليه لكان حالك أسوأ الأحوال، فلا يغرّنك قول من زعم أن اللّه تعالى يُرى بالبصر.
ثمّ ذكر لمعاوية أعاجيب ما نسبوه من المكروه والباطل للأنبياء ولأبويه النبيّ وعليّ عليهم السّلام جميعاً.
مناظراته(عليه السلام)
لأبي عبد اللّه عليه السّلام الكثير من الحجج البوالغ التي أظهر فيها الحقّ وقطع فيها العذر، نوافيك بشطر منها لأنها ناحية من نواحي حياته العلميّة مليئة بالعِبر والعِظات لا يستغني المسلم عن الوقوف عليها.
مناظراته في التوحيد
سبق شيء من كلامه عليه السّلام في التوحيد، وكان في طيّه بعض المناظرات، ونورد ههنا شيئاً منها غير ما سلف.
فمن تلك المناظرات ما يروى عن هشام بن الحكم، قال: كان بمصر زنديق يبلغه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أشياء، فخرج الى المدينة ليناظره فلم يصادفه بها، وقيل: إِنه خارج بمكّة، فخرج الى مكّة ونحن مع أبي عبد اللّه عليه السّلام فصادفنا ونحن مع أبي عبد اللّه في الطواف وكان اسمه عبد الملك وكنيته أبو عبد اللّه، فضرب كتفه كتف أبي عبد اللّه عليه السّلام، فقال له: ما اسمك ؟
قال: عبد الملك،
قال: فما كنيتك ؟
قال: أبو عبد اللّه،
فقال أبو عبد اللّه الصادق عليه السلام: فمن هذا الملك الذي أنت عبده ؟ أمن ملوك الأرض أم ملوك السماء ؟ واخبرني عن ابنك عبد إِله السماء أم عبد إِله الأرض ؟ قل ما شئت تخصم. فلم يحر جواباً.
ثمّ أن الصادق عليه السّلام قال له: اذا فرغت من الطواف فأتنا، فلما فرغ أبو عبد اللّه عليه السّلام أتاه الزنديق فقعد بين يديه عليه السّلام ونحن مجتمعون عنده، فقال أبو عبد اللّه الصادق للزنديق: أتعلم أن للأرض تحتاً وفوقاً ؟
قال: نعم،
قال: فدخلت تحتها ؟ قال: لا،
قال: فما يدريك ما تحتها ؟ قال: لا أدري إِلا أني أظن أن ليس تحتها شيء،
فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: فالظنّ عجز فلِم لا تستيقن،
ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: أفصعدت الى السماء ؟ قال: لا،
قال: أفتدري ما فيها ؟ قال: لا،
قال: عجباً لك لم تبلغ المشرق ولم تبلغ المغرب، ولم تنزل الى الأرض ولم تصعد الى السماء، ولم تجز هناك فتعرف ما خلفهنّ، وأنت جاحد بما فيهنّ، فهل يجحد العاقل ما لا يعرف ؟ قال الزنديق: ما كلّمني بها أحد غيرك.
فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: فأنت من ذلك في شكّ فلعلّه هو ولعلّه ليس هو، فقال الزنديق: ولعلّ ذلك،
فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: أيّها الرجل ليس لمن لا يعلم حجّة على من يعلم، ولا حجّة للجاهل، يا أخا أهل مصر تفهم عنّي فإنّا لا نشكّ في اللّه أبداً، أما ترى الشمس والقمر والليل والنهار يلجان فلا يشتبهان ويرجعان، قد اضطرّا ليس لهما مكان إِلا مكانهما فإن كانا يقدران على أن يذهبا فلِم يرجعان ؟ وإن كانا غير مضطرّين فلِم لا يصير الليل نهاراً والنهار ليلاً ؟ اضطرّا واللّه يا أخا أهل مصر الى دوامهما والذي اضطرّهما أحكم منهما واكبر(أي أكبر في القوّة والقدرة وما شابه ذلك) فقال الزنديق: صدقت.
ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: يا أخا أهل مصر إِن الذي تذهبون اليه وتظنّون أنه الدهر إِن كان الدهر يذهب بهم فلِم لا يردّهم ؟ وإِن كان يردّهم لِم لا يذهب بهم ؟ القوم مضطرّون يا أخا أهل مصر، لِم السماء مرفوعة والأرض موضوعة ؟ لِم لا تنحدر السماء على الأرض ؟ لِم لا تنحدر الأرض فوق طباقها ؟ ولا يتماسكان ولا يتماسك مَن عليها ؟
قال الزنديق: أمسكهما اللّه ربّهما سيّدهما.
قال: فآمن الزنديق على يدي أبي عبد اللّه عليه السّلام، فقال حمران بن أعين: جعلت فداك إِن آمنت الزنادقة على يدك فقد آمن الكفّار على يد أبيك.
فقال المؤمن الذي آمن على يدي أبي عبد اللّه عليه السلام: اجعلني من تلامذتك، فقال أبو عبد اللّه: يا هشام بن الحكم خذه اليك، فعلّمه هشام، وكان معلّم أهل الشام وأهل مصر الايمان، وحسنت طهارته حتّى رضي بها أبو عبد اللّه عليه السّلام.
وجاء اليه زنديق آخر وسأله عن أشياء نقتطف منها ما يلي: قال له: كيف يعبد اللّه الخلق ولم يروه ؟ قال أبو عبد اللّه عليه السلام: رأته القلوب بنور الايمان، وأثبتته العقول بيقظتها إِثبات العيان، وأبصرته الأبصار بما رأته من حسن التركيب وإِحكام التأليف، ثمّ الرسل وآياتها، والكتب ومحكماتها، واقتصرت العلماء على ما رأت من عظمته دون رؤيته،
قال: أليس هو قادر أن يظهر لهم حتّى يروه فيعرفونه فيُعبد على يقين ؟
قال عليه السلام: ليس للمحال جواب (أي إِنما الرؤية تثبت للأجسام وإِذا لم يكن تعالى جسماً استحالت رؤيته، والمحال غير مقدور لا من جهة النقص في القدرة، بل النقص في المقدور).
قال الزنديق: فمن أين أثبت أنبياءً ورسلاً، قال عليه السلام: إِنّا لمّا أثبتنا أنَّ لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنّا وعن جميع ما خلق، وكان ذلك الصانع حكيماً لم يجز أن يشاهده خلقه ولا أن يلامسوه ولا أن يباشرهم ويباشروه ويحاجّهم ويحاجّوه، ثبت أن له سفراء في خلقه وعباده يدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه، وثبت عند ذلك أن لهم معبّرين وهم الأنبياء وصفوته من خلقه، حكماء مؤدّبين بالحكمة، مبعوثين عنه، مشاركين للناس في أحوالهم على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب، مؤيّدين من عند الحكيم العليم بالحكمة والدلائل والبراهين والشواهد من إِحياء الموتى وإِبراء الأكمه والأبرص.
ثمّ قال الزنديق: من أيّ شيء خلق الأشياء ؟
قال عليه السّلام: من لا شيء، فقال: كيف يجيء شيء من لا شيء ؟
قال عليه السلام: إِن الأشياء لا تخلو إِما أن تكون خلقت من شيء أو من غير شيء فإن كانت خلقت من شيء كان معه، فإن ذلك الشيء قديم، والقديم لا يكون حديثاً، ولا يتغيّر ولا يخلو ذلك الشيء من أن يكون جوهراً واحداً ولوناً واحداً، فمن أين جاءت هذه الألوان المختلفة والجواهر الكثيرة الموجودة في هذا العالم من ضروب شتّى ؟ ومن أين جاء الموت إِن كان الشيء الذي اُنشئت منه الأشياء حيّاً ؟ أو من أين جاءت الحياة إِن كان ذلك الشيء ميّتاً ؟ ولا يجوز أن يكون من حيّ وميّت قديمين لم يزالا، لأن الحيّ لا يجيء منه ميّت وهو لم يزل حيّاً، ولا يجوز أيضاً أن يكون الميّت قديماً لم يزل لما هو به من الموت، لأن الميّت لا قدرة به ولا بقاء.
أقول: إِن هذا الأمر على دقّته قد أوضحه الامام بأحسن بيان وردّده بين اُمور لا يجد العقل سلواها عند الترديد، وحقّاً إِن كان الشيء الذي خلقت الأشياء منه قديماً لزم أن يكون مع اللّه تعالى شيء قديم غير مخلوق له، ولو فرض أنه مخلوق له عاد الكلام الأول أنه من أيّ شيء كان مخلوقاً، هذا غير أن القديم لا يكون حادثاً، والميّت لا يكون منه الحيّ، والحيّ لا يكون منه الميّت، والحياة والممات لا يتركّبان، ولو تركّبا عاد الكلام السابق، فإن الموت لا يصلح أن يكون في الأشياء الحيّة، ولا بقاء ولا دوام ليكون باقياً إِلى أن خلق اللّه منه الأشياء الحيّة، فلا بدّ إِذن من أن يكون تعالى قد خلق الأشياء من لا شيء.
ثمّ قال: من أين قالوا إِن الأشياء أزليّة ؟
قال عليه السّلام: هذه مقالة قوم جحدوا مدبّر الأشياء فكذّبوا الرسل ومقالتهم، والأنبياء وما أنبأوا عنه، وسمّوا كتبهم أساطير، ووضعوا لأنفسهم ديناً بآرائهم واستحسانهم، وإِن الأشياء تدلّ على حدوثها من دوران الفلك بما فيه وهي سبعة أفلاك، وتحرّك الأرض ومن عليها، وانقلاب الأزمنة، واختلاف الحوادث التي تحدث في العالم من زيادة ونقصان، وموت وبلى، واضطرار الأنفس الى الإقرار بأن لها صانعاً ومدبّراً، ألا ترى الحلو يصير حامضاً، والعذاب مرّاً، والجديد بالياً، وكلّ الى تغيّر وفناء.
أقول: إِن الاستدلال بانقلاب الأزمنة ودوران الفلك من أدقّ الأدلّة العلميّة على حدوث العالم، الذي قصرت عنه أفهام كثير من الفلاسفة العظام كما أنه جعل الفلك الدائر فلكاً واحداً ثمّ تفسيره بالأفلاك السبعة لا ينطبق إِلا على نظرية الهيئة الحديثة إِذ يراد به النظام الشمسي، ومثله تصريحه بحركة الأرض التي لم يكن يحلم بها أحد من السابقين، وهي من مكتشفات العلم الحديث.
وللصادق عليه السلام نظير ذلك مع الجعد بن درهم، وكان من أهل الضلال والبدع، وقتله والي الكوفة يوم النحر لذلك، قال ابن شهراشوب: قيل إِن الجعد بن درهم جعل في قارورة ماءً وتراباً فاستحال دوداً وهواماً فقال لأصحابه: أنا خلقت ذلك لأني كنت سبب كونه، فبلغ ذلك جعفر بن محمّد عليهما السلام، فقال: ليقل كم هي ؟ وكم الذكران منه والاناث إِن كان خلقه، وكم وزن كلّ واحدة منهنّ، وليأمر الذي سعى الى هذا الوجه أن يرجع الى غيره.
فانقطع وهرب.
أقرأ ايضاً
- المسرحيات التي تؤدى في وطننا العربي
- الرزق الحلال... آثاره بركاته خيراته
- التأهيل اللاحق لمدمني المخدرات