- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
توماهوك والسقوط المدوي لكل القيم
حجم النص
سيدة نصري / كاتبة وشاعرة من تونس " اذاكانت الرواية العربية قد خطت في مجال التجريب خطوات حاسمة وغاصت في كل مناحي وجودنا فان هذا المجال هو نفسه من يحدد احتمالات المستقبل لابتداع مدونتها. وما يعزز عملية التجريب وأهميتها ودورها في تجديد عناصرها وأدواتها أن العلامات الفارقة في الرواية العربية عبر تاريخها كانت روايات تجريبية نأت بنفسها عن دائرة التنميط التي سادت ووسمت معظم انجازاتها الروائية المؤسسة.فاستعاضت عن السكونية بالحركة الدائبة ,وعن النقل بأعمال الفكر في كل ما تنتج , لأن الرواية تيار متدفق ورمال متحركة , ومشروع غير منجز يرفض الشكل النهائي لقد نجحت ثلة من مبدعيها المؤمنين بهذه المقومات وسعوا بكل جد لولوج مغامرات التجريب والتحديث ترسيخا لمقولات منظريها ومن بينهم "ج هيلر ميلر "الذي يرى أن الكتابة الروائية الجديرة بالانتماء إلى تاريخ الأدب هي تلك التي توقع الفوضى في كل القوانين التي تعطيها شكلا ومعنى – فاذاكان لكل نص سردي متن حكائي أي حكاية وخطاب ¸وهما المكونان الأساسيان , وما تواترمن علامات لغوية تلك التي تحيل إليها نظريات السرد الحديثة.. وهناك من يعتبر أن الرواية أهم منجزات مرحلتنا الراهنة مثل الروائي السوداني الطيب صالح – إذا قورنت بغيرها من مجالات الإبداع الأخرى.- فقد قدمت الإضافة في لغة التعبير وتقنيات السرد , وقدمت الاهتمام بجوانب بالخطاب على جوانب مضمون , فتحررت من قيود الخطاب التقليدي ومواصفاته وحطمت السرد الرتيب والحبكة المصنوعة , ورسم الأنماط الروائية الجاهزة ,فأخذت الكتابة الروائية ما بعد الحداثة منعرجا جديدا يهدف إلى تفجير الطاقة اللغوية والشعرية الكامنة في المشاهد الأكثر قتامة لإنارة تلك المشاهد المظلمة لتتوهج بوهج الفن ,ولتؤسس لمرحلة جديدة في السرد , ولتأسيس نص مفتوح لتحويل الطاقة الشعرية وصهرها لبناء الحكاية سرديا وحلميا –وبذلك يتحول الزمن السردي إلى زمن نفسي فتحوله إلى دلالات لغوية ورموز تعطي أبعادا للطرح الروائي وتقربه من مجالات المعرفة , فتركز على العوالم الداخلية لشخوصها وما يمور في نفوسهم لإبراز المعنى في الحكاية.وقد شهدت العقود الأربعة الأخيرة قفزة نوعية وطفرة إبداعية بدخول الرواية منعرجا حاسما لتأصيل الهوية التي يشكك بعضهم أنها جنس وافد , بينما يرى آخرون أن لها مسوغا في مخزوننا وتراثنا الحكائي وموروثنا الثقافي.لقد عدها بعضهم "ديوان العرب الجديد "وغامروا للارتقاء بها ذرى شاهقة صالح جيار خلفاوي قاص وروائي عراقي صوت متفرد يعمل بجد ومثابرة أصدرعديد المجاميع القصصية ,وأطلق مبادرة "القصة التفاعلية " فكان من روادها مواكبة لنمط العصر وسرعته الجنونية ,واستغلال هذا الجال الرهيب خدمة لهذا الجنس. بدأ مدونته قاصا ذا أسلوب متميز ينشد الفرادة في غابة السرد الكثيفة فليس متيسرا لانسان هذا العصر اللاهثة عقاربه التوقف وملاحقة هذا الخضم الهائل من العناوين من الصعب أن تشدك رواية وتحيلك الى التأمل والدهشة والمتعة معا تلك التي تثيرها لديك. توماهوك" هذه الرواية القصيرة نسبيا حققت تلك العناصر ونجحت في شد انتباهنا , وتحريك سواكننا وحثنا على التفكير العميق لحل وتهجي مبناها والإنصات إلى إيقاعها المثخن بالأسى , وأجوائها المربدة المشحونة بمناخات الحرب والخوف والموت المتربص لأبطالها في كل اتجاه , وانعكاس كل ذلك الأذى على حياتهم..نفوسهم.وتطلعاتهم , حتى سقوطهم في مستنقع اللاجدوى. الرواية تعج "بالهذيان " بالتصدع الداخلي لأبطالها وما حولهم.. بجرم الاغتصاب –وما يحيل إليه..في مستوياته المختلفة...المستساغة -..المفروضة.. والمتواطئة أحيانا..في إحالاته..رموزه المتعددة. فكل هذه الحالات والأجواء لم تحطم بنية المكان والزمان فقط بل تعدتها وطالت البني النفسية لأبطالها فبدت شخوصها معطوبة هلامية لاترى منها سوى ما يعتمل في ذواتها المطحونة المتشضية , والمشحونة بهاجس الموت والخوف , وبالتالي عبثية الحياة تلك التي جردتها الحرب ومعها القمع من كل معنى وقيمة. _توماهوك "هذا العنوان المفتاح الذي سيفتح على الهاوية , والسقوط في عمق المتاهة..سقوط الإنسان وما يحمل من قيم وزاد حضاري _. تعدد الأصوات فيها زادها ثراء وأعطاها تنوعا لافتا. صالح جيار خلفاوي روائي يجيد تحريك عناصره بكل فنية..يرسم ملامح المشهد ,يشكل الأبعاد كمعماري أصيل.يصوغ من الألم, من السقوط عالما يشع بجمالية الفن وليس بجمالية الحدث, وتلك لعمري أهم سمات المبدع الحق. العنوان هو الإشارة الأولى لتهيئة المتلقي..قصة الحب المستحيلة –وحضور العيد _وأي عيد –إنها بعض المراوغات ستزج _بنا في أتون الحكاية للتوغل في دهاليزها –لسبر أغوارها. هذه الرواية الكابوسية _البانوارمية _تستلهم التاريخ..الأسطورة والموروث الحضاري العراقي لبلورة كل ذلك ولرسم ملامح الحاضر السريالية. من هو "شرلمان " رمز الغطرسة والهيمنة الذي يتردد حضوره كإحدى السمات الملازمة للحكاية بل أهم العناصر. انه!! المركب للمشهد ألحدثي –الروائي. وهارون الرشيد..يتسلل الى المتن المروي –ليدلي بدلوه –ليوميء أنه عبر أرض الرافدين ذات حقبة مشابهة أو مناهضة..ألف ليلة وليلة –الحقيقة الخيال الذي وسم التاريخ. وكأني بخلفاوي يدق بأزميره ليستجلي مكونات جوهر هذه الشخصية العراقية ومن خلفها العربية عبر تواتر الزمن. ولأن الرواية ليست تسلية فقط ولكنها بحث مضن في ثنايا الزمان والمكان وماهية الكانسان لاستجلاء جوهر الأشياء ’ "تتجلى إبداعيتها من حيث أنها تجعل من كل شيء فيها يسهم ليضع ثمرة أفكار الروائي كلها أمامنا ". "سمعت صريرا يأتي حاملا حكايات قديمة تنضح صورا لماضين ,وتذهب منزلقة مثل حلم يتكرر بارتخاء , يضفي تأججا على جبيني المربوط بالياشماغ " ما شدني في هذه الرواية بناؤها الحديث, فالحدث فيها يصاغ عبر جمالية اللغة ليحدث الدهشة في ثنايا الخطاب.أما الحوار فيها فبدا مكثفا ومبتسرا أحيانا يعرض بطريقة مبتكرة. "إن عطبا مهولا يكون قد حصل في مسلة الروح وأن العالم الذي يعود إليه لن يكون هو العالم الذي ذاته الذي عرفه من قبل.سيتحول شكل الموجودات, ونكهة الأشياء, وطعم المأكولات ". هكذا تمضي الرواية في سياقاتها السردية المستحدثة لتنشأ بناءها "الذاتي "وهو يماوج مع شعرية اللغة عبر تيار الوعي وهو يختط له مجاري , منابع وخريرا فإذا به يشدنا إلى عوالمها المتداخلة." وكأن الأرواح قد مسخت ولم تعد قادرة على التواصل الحميم ".ويمضي الكاتب في تعميق الصور في أذهاننا وترسيخها. "وتتغير نظرة الإنسان إلى ذاته وتاريخه ووطنه, وسوف يكون العالم القديم كصورة شاحبة في الذاكرة قد غار إلى الأبد "هذا ما فعلته الحرب المدمرة بالوجود الإنساني على هذه الأرض المنذورة للحزن وللدم القاني يرويها."فقط حين يتلقى الأسرى أجورا نقدية مقابل عملهم , يكون بمقدورهم شراء أطعمة جيدة ويفيض على وجوههم ماء الحياة ثانية " أنها صورة بليعة للبؤس الذي احتواهم."يشعر كم هو مهمل ولا أحد بحاجة إليه " هكذا استحال الإنسان العراقي على تلك الأرض ومسخ " وكيف أن كبة الصوف أكثر حياة منه – لقد أحالته سنوات المعسكر إلى كتلة من الخواء والعجز ". انه يرصد حالة الدمار الشامل – التي طالت كل شيء. " انه يهز المتلقي يكشف بلا تردد كل الأقنعة لنرى تلك المخلوقات مجردة سافرة في عريها الرهيب..في لحظات ضعفها وانكساراتها المدوية. يرسم الكاتب هنا صورا موحية للانمحاء والموت , ويمضي في تشخيصه لانعكاس الحرب على شخوصه."مررت بين أجساد تؤمن بالموت والحداد " وفي سياق آخر يورد " أشعر أنني امرأة تنتصب بين زمن لا متناهي يعدو بلا غرابة في خيال مزمجر وآخر لا أتكيف معه مثل شبح في اتجاه الضوء ".ويتوغل غوصا لبناء نصه جاعلا من اللغة مركز الحركة , في تناميها وعبرها وفي إطارها تتحرك شخوصه..تتحسس دربها..كشف عوالمها , ومن خلالها يتشكل النص في تمازج لغوي وتناسق بديع يخلق المتعة , وأنت تتابع هذا السيل المتدفق بانسيابية عذبة , مهما بدت "دناءة الفعل – الحدث " قاسية وصادمة ومدمرة أحيانا , في انحرافات الجنس وتشوهاته , أنها الشهوات المحاصرة بشبح الموت والفناء تمارس كردة فعل لغريزة البقاء والتشبث بها. تتواتر المشاهد واللوحات بألوانها الحارقة وروائحها العطنة..المربدة لتكون المشهد المشع في قتامته.وبالتالي في صياغة" جمالية القبح " "أفتقد الحرية التي سلبت جسدي ".ما تضمره هذه الرواية فاجع ومقلق ما تبوح به أيضا " عيون ملونة ما انفكت تطالعني , تستمع إلى الأصوات الآتية من جوف الجذع – البيت لم يكن سوى جدران فارغة وأبواب مغلقة بالمراتيج ".إنها حكاية ترزح تحت ثقل تلك الرموز ودلالاتها وإحالاتها العميقة. "ثمة صرخات تشتبك مع صدى نفسي , تتداخل النغمات عتمة الغبش توحي أن لا نهاية للغرف , فضاء ممسوخ ".قد تتغير الأشكال السردية غير أن الهدف واحد ألا وهو البحث من خلال الرواية ولغتها وأشكالها عن معنى الإنسان العربي..حضوره في الزمان والمكان عبر استحضار التجربة الفردية والذاتية... للتاريخ..للتطلع للآتي.فهل أجاب صالح جيار خلفاوي على كل تلك الإشكاليات التي طرحها أم أنه _ورطنا –معه وتركنا وجها لوجه مع صورنا المنعكسة في نصه _المرآة _نتمعن معالم الأفق الملبد بالغيوم السوداء والرياح العاتية , التي ستجتث كل ما هو آيل للسقوط. فلنتهجى سفرها جيدا.
أقرأ ايضاً
- الماء والكهرباء والوجه الكليح !
- الغدير بين منهج توحيد الكلمة وبين المنهج الصهيوني لتفريق الكلمة
- في الدستور العراقي.. النفط ملك الشعب و راتب و قطعة أرض لكل عراقي