حجم النص
بقلم:مجاهد أبو الهيل لا أخفي سعادتي بحجم التأويلات التي وقعت مقالاتي السابقة في دائرتها عن دور المرجع السيستاني في بناء الدولة، فرغم ضيق أفق بعضها إلاّ أن الكتابة التي لا تفتح نار الاسئلة في رؤوس الآخرين ليست مجدية من وجهة نظري، لذلك سعادتي تتسع بحجم علامات الاستفهام التي تنحني أمام ما أكتب. بناة الدولة وأصحاب مشروعها ليس بالضرورة أن ينظّروا لها بشكل تفصيلي وإنما يجب أن يتمكنوا من تكييفها مع المقولات التي تسهم في بنائها وحمايتها من أن تكون مرتهنة لمقولات خاطئة وأسيرة لقراءات ضيقة. هناك فرق كبير بين أصحاب فلسفة تكوين الدولة وبين أصحاب مشروع بناء الدولة، فالنص النظري لا يُنجح مشروعا وإنما يؤصل له فقط، أما نجاح المشروع فمرهون بعوامل عديدة يجب الاشتغال عليها من قبل اصحاب القرار. في ايران مثلا لم يكن الإمام الخميني منظّرا لمشروع الدولة قبل ان يقود الثورة حيث خلت بحوثه الفقهية من اية تنظيرات من هذا النوع باستثناء بحث فقهي واحد في “ولاية الفقيه” ألقاه على طلابه في النجف بشكل تقليدي، لكن هذا لم يمنعه من بناء دولة دينية تعد الاكثر نجاحا بين التجارب المعاصرة في بناء الدولة بغض النظر عن شكلها وهويتها، أما التجربة العراقية فقد شهدت تشظياً في رأس القرار السياسي بحكم عوامل الواقع واستحقاقات المشاركة السياسية بفعل تعدد المكونات السياسية والطائفية والاجتماعية والعرقية وما افرزته التجربة من إسقاطات كثيرة جعلتها بحاجة الى مرجعية وطن تستحوذ على طاعة الجميع، إذ لم يلعب هذا الدور أحد من النخب السياسية المتصارعة على الثروة والسلطة مما ولّد فراغاً كبيراً في ساحات الصراع، ولم يستطع احد شغل هذا الفراغ إلاّ بعد تراكمات من المواقف جعلت افرازات المرحلة تصب في صالح النجف ومرجعيتها الحكيمة التي تخلصت مبكرا من قيود الطائفة وأطر الانتماء لتشكل قناعة الجميع بأهليتها للعب هذا الدور التاريخي في حفظ البلد من الانشطار والتشظي. إن عدم قراءة النخب السياسية والمعرفية لمدونة السيستاني في بناء الدولة اسهم في ضياع الكثير من الفرص لصناعة مشروعها وإنجاحه لأن ما دوّنه الرجل في توجيهاته وبياناته وأجوبته على تساؤلات الكثيرين يغطي مساحة مهمة في عملية البناء الجاد لدولة تنسجم مع استحقاقات المرحلة التي تتأرجح ما بين مجتمع متدين وطبقة ليبرالية وأحزاب إسلامية هرعت برمتها للمشاركة في العملية السياسية وبين عراق متنازع عليه بين قوى كبرى وإرادات متناقضة. كما ان في مشروع السيستاني لبناء الدولة تكمن نقاط كثيرة ومهمة مدونة بشكل نظري من خلال توجيهاته وفتواه ورؤيته التي يبثها في حواراته ولقاءاته المتعددة لتشكل ملامح نظرية السيستاني لبناء الدولة. ربما يكون كل ذلك خارج المتن الفقهي لبحوثه العلمية، لكن هناك مواقف كثيرة وأسئلة حائرة لدى الكثيرين من مجتمع ونخب سياسية وثقافية ودينية لم يجب عليها المرجع ولم يتخذ موقفاً إزاءها، وهذا بحد ذاته مدخل لفهم نظرية الرجل ومسك خيوط مدرسته التي تشتغل في موضوعة الدولة ومقولاتها، فالسكوت عن موقف ما او عدم الرد على فعل ما يؤصل لقاعدة “عدم ردة الفعل” التي ابتعد عنها المرجع في مواقفه وتوجيهاته رغم المحاولات الكثيرة لسحب الرجل لهذه المنطقة الخطيرة التي لم يسلم من الوقوع بها كثير من ساستنا وأحزابنا ونخبنا وطوائفنا ومكوناتنا مما ولّد العديد من المطبات التي اخذت البلد الى منحدرات سحيقة. لعل نظرية السيستاني تقترب من نظرية الشيخ محمد حسين النائيني في بناء الدولة التي نقرأها واضحة في كتابه “تنبيه الأمة وتنزيه الملة” فكلا الفقيهين ينتميان الى ملامح مدرسة واحدة أسهمت في بلورة تكوين الدولة ضمن اطار المدونة الفقهية مع احترام ارادة الشعب كما يذكر استاذنا الدكتور عبد الجبار الرفاعي في مقدمته عن كتاب النائيني التي عالجت هذا الموضوع بشكل لائق ينبئ عن فهم وادراك لدور المرجع السيستاني في بناء الدولة الواقعية بعيدا عن الأحلام. إن نظرية “الدولة المتدينة” التي كتبنا عنها في المقال السابق تأتي ضمن هذا النسق المسكوت عنه في الإفصاح عن شكل الدولة في مدرسة السيستاني التي ترك تحديد ملامحها وتفاصيلها للشعب المقترع (بكسر الراء)، لأن المرجع لا يريد أن يقع في أسر المفاهيم ولعبتها بقدر ما يريد تكييف هذه المفاهيم والمقولات مع شكل الدولة المفترض. إذن نحن أمام تجربة جديدة في بناء الدولة علينا ان نحسن قراءتها واستنطاق دلالاتها وإلاّ فإننا سنضيع الفرصة ولا نستطيع اغتنامها بعد أن تمر علينا وتعبر من بوابة العراق الاخرى.النخب جميعها مطالبة بتوظيف رؤية السيستاني في بناء الدولة لا لكونها الوحيدة في هذا المجال وإنما لأنه القادر الوحيد على بلورة فكرة صناعة دولة يقبل بها الجميع لأنها تراعي مصالح الجميع وتحفظ حقوقهم وتحميهم من بعضهم البعض.
أقرأ ايضاً
- المرجع السيستاني.. المواقف تتكلم
- لماذا أدعو إلى إصلاح التعليم العالي؟ ..اصلاح التعليم العالي الطريق السليم لاصلاح الدولة
- إضحك مع الدولة العميقة