تحقق حلم القس الاسود مارتن لوثر كينغ، رائد الحقوق المدنية في امريكا، بشكل لايصدق بعد ثلاث وخمسين عاماً فقط من خلال ثورة الشعب الامريكي الثقافية (الانتخابات) التي دقَّت آخر مسمار في نعش العبودية والعنصرية في هذه القارة، فأثبتتْ امريكا مرة اخرى انها البلد الوحيد القادر على (التغيير) وإن هذا هو سر عظمتها وتفوقها...
الامة الامريكية دأبت على أن تعطي كل رئيس جديد مهلة أمدها مئة يوم كي يضع سلّم اولوياته الذي وعدَ به الناخبين قيد التنفيذ، لكن السؤال المهم بالنسبة لنا، ماذا عن ازمات امريكا والشرق الاوسط؟ ما الذي يمكن ان يقدمه اوباما المثقف الذي يحمل افكارا مثالية، لعشرات المشاكل المركّبة والمعقدة المرتبطة بشكل وبآخر بدولاب السياسة الامريكية؟
ماذا عن ازمات داخلية رافقت نهاية ولايتي بوش، وأغدَقَتْ على اوباما بملايين الاصوات الانتخابية ومن الممكن أن تغرقهُ ايضاً فيما لو تلكأَ في معالجتها؟
ما الجديد الذي يمكن أن يقدمه اوباما ولم يتوصل اليه الجمهوريين خلال الولايتين اللتين قضوها في حكم امريكا والتحكّم بالشرق الاوسط؟
فيما يخص العراق، بعد أن شارف الجمهوريون على اكمال المهمة في هذا البلد المتنوِّع المشاكل والعُقَد قدر تنوع جغرافيته واطيافه، من خلال تقديم المعاهدة الأمنية بين العراق وامريكا لتشكل اساس التعاون المستقبلي بين البلدين، وتُقدِّم صورة واضحة عن كيفية ووقت انسحاب القوات الامريكية من العراق، فإن اجندة اوباما في هذا الامر لا تحمل سوى نيّته سحب الوحدات القتالية من العراق بحلول شهر آب المقبل، وكأنه يعلم ما سيحل بعد هذا الموعد!! بينما نجد ان ما توصلت اليه الحكومة العراقية والادارة الامريكية السابقة يحدد الامر في ثلاث سنوات كأسلوب صرف متدرّج لتسليم المهام والمسؤوليات والقواعد ومراكز الامن المشتركة وفك الارتباط مع الوزارات الامنية، وبالنتيجة اذا ما تساءلنا عمَّن يكون موعده اجدى واكثر أمناً وواقعية وخبرة بواقع التفاصيل على الارض فإن ترتيب الانسحاب الذي تضمنته المعاهدة هو الاكثر نضجاً وموضوعية. الامر الذي يفيد بأن اوباما يقدم الحل المُقلِق للأمريكيين والعراقيين على السواء، وإن كانت نيته دفع العراقيين اكثر للإعتماد على انفسهم وانجاز القوانين المهمة وتحقيق المصالحة والتعايش. وفَتحْ صفحة جديدة للامريكيين الذين يتوقون لليوم الذي لاتتناول فيه وسائل اعلامهم اخبار العراق كشأن رئيسي ومصدر للشؤم.
ورغم ان رئاسة اوباما قد اعطت العراقيين فرصة لبدء صفحة جديدة مع قدرة اكبر على التحكم بمصيرهم. إلا ان هذا الوضع سيترك العراق اكثر انفراداً بمواجهة اوضاعه بين جيران عدوانيين، وعاجز عن النظر الى الامريكيين كوسطاء عند تنازع الفصائل السياسية داخله او مع جيرانه خاصة فيما يتعلق بالخلافات مع الاكراد التي تتزايد حدّتها كل يوم منذرة بالإنفجار عند تخوم كركوك الغنية بالنفط والمناطق المتنازّع عليها في انحاء اخرى عديدة من العراق...
حتى نتائج زيارة اوباما الاخيرة، التي تمخضت عن التزامات امريكية حيال العراق من قبيل حماية العملية السياسية، وضمان المشاركة الواسعة في ادارة البلاد، ودعم العراق في مواجهة اي عدوان خارجي، والتعهد بإسناد جهود الحكومة العراقية في التخلص من القرارات الدولية المجحفة التي صدرت في زمن النظام البائد. كل هذه الالتزامات لم يأتِ بها اوباما فهي قد أُقرّت في عهد بوش كتفاصيل ضمن المعاهدة الامنية بين العراق والولايات المتحدة.
اما بالنسبة للازمة المالية التي قصمَت ظَهر الجمهوريين وأضرَّت اكبر ما يمكن بنظرة المجتمع الامريكي للسياسات الجمهورية التي اطبقت على أفق الولايات المتحدة طيلة 28 عاما، وأغدَقَت على الديمقراطيين بأصوات ملايين الناخبين القلقين على مستقبلهم الاقتصادي وحياة ابنائهم في العراق فإن اوباما لم يأتِ بشيء مغاير لخطة الانقاذ التي اعتمدَتها الادارة الامريكية السابقة سوى نيّته إضافة معزِزات لخطة الإنقاذ من خلال طرحه فريقاً اقتصادياً يدرس مدى التعزيزات المطلوبة لتطويق الازمة المالية التي أدخَلت فعلاً العديد من الولايات الامريكية مرحلة الانكماش الاقتصادي.
كما ان خطة اوباما التي تعتمد اساسا على رفع الضرائب قد صورت أولئك الذين لديهم القدرة على تشغيل الأفراد وتوفير الوظائف، صورتهم وكأنهم اعداء للامريكيين، فهؤلاء باتوا يدركون تماما ان الضرائب المستحقة عليهم، سوف ترتفع كثيرا خلال الفترة المقبلة، ومن ثم سيحجمون عن القيام بأي استثمار جديد في الاقتصاد، لأنهم يرون ان الاقتصاد ينهار، وقد دخل مرحلة ركود سوف تستمر لفترة من الزمن، ومن ثم لن يكون هناك مستهلكون للبضائع والمنتجات التي يقومون باستثمار اموالهم فيها.
ومن خلال ما تقدم نرى بأن اوباما لا يهتم مطلقا بأن يحصل المواطن الامريكي على وظائف، ولكن كل ما يريد القيام به في الوقت الحالي هو ان يجعل الامريكيين يعتقدون بأن الاقتصاد الامريكي ينهار، ومن ثم يُنظر الى خططه بأنها هي الكفيلة بإنقاذ الاقتصاد، الامر الذي يذكّر بأسلوب الترويع لدى الرئيس السابق بوش، وهو ما كان اوباما دائما ينتقده ويعتبره مبالغة ومثلبة...
وبينما تقوم هذه الادارة في كل يوم بإحالة المشاكل والازمات الحالية الى فترة حكم الرئيس الامريكي السابق بوش، وتوجيه اللوم الى سياسات الحزب الجمهوري والى الطريقة التي أسست بها الولايات المتحدة! والى الرأسمالية!، فإن الحل من وجهة نظر اوباما، هو مزيد من الإنفاق الذي سيكون على حساب دافعي الضرائب من اصحاب الشركات والاعمال الامريكيين الذين سوف يرون اوباما بصورة العدو الساعي لامتصاص اموالهم وسيدفعهم ذلك بالتاكيد الى التوقف او التلكؤ في اقامة المشاريع والاستثمارات التي هي عِماد سوق العمل في امريكا...
وفيما استطاع اوباما حشد العديد من اقطاب القوة الاقتصادية والعسكرية العالمية خلال قمة العشرين التي عقدت مؤخرا في لندن من اجل الحصول على دعمهم لأفغانستان ووضع رؤية مشتركة لجمع قرابة الـ 1000 مليار دولار لتغطية عجوزات المال العالمية وتنشيط قطاع المصارف والاعمال إلا ان هذه التحركات لن تؤتي ثمارها قبل عام او عامين في ضوء تزايد تداعيات الازمة وازدياد اعمال العنف في افغانستان وباكستان ضمن دائرة مفرغة عمادها الأفيون وطالبان والفساد.
وفي ظل ذلك تبقى الأفق القاتمة هي نفسها بالنسبة للامريكيين بينما تزداد قتامة في أعين العراقيين خشية من انسحاب اوبامي غير مسؤول قد يؤجج نيران الصراع السياسي وطموحات الانفصال ويشجع الجيران على التدخل اكثر في شؤون العراق...
صباح جاسم