- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
مدرسة التقوى... في خطبة السيدة زينب الكبرى عليها السلام
العلم قسمان : قسم يأخذ الإنسان من أستاذه و من تجاربه و فكره و أما القسم الآخر فهو العلم الذي يفيضه الله تعالى على الإنسان . و قد أشار القرآن الكريم إلى هذا القسم من العلم بقوله عن الخضر - عليه السلام - ( فوجدا عبداً من عبادنا آتينه رحمة من عندنا و علمنه من لدنّا علماً ) و لذلك يسمى هذا النوع من العلم بالعلم اللدنّي
فعلم السيدة زينب - عليه السلام - كان من العلم اللدني أفاضه الله تعالى عليها و إلهمها إياه إلهاماً . وقد ورد في الروايات أن من أخلص لله تعالى أربعين صباحاً جرت ينابيع الحكمة من قلبه إلى لسانه . فإذا كان الإخلاص أربعين صباحاً يفتح للإنسان نافذة إلى العلم اللدنيّ فكيف بزينب و ما أدراك ما زينب .
وفي خبر آخر أن فاطمة الزهراء عليها السلام لما كانت حاملة بابنتها الكبرى لم يكن رسول الله صلى الله عليه و آله حاضراً في المدينة و إنما كان في سفر فلما وضعتها سألت أمير المؤمنين عليه السلام أن يختار لوليدتها اسماً مخافة أن يبطئ رسول الله صلى الله عليه و آله و يتأخر في القدوم من سفره فقال عليه السلام : إني لا أسبق رسول الله صلى الله عليه و آله في ذلك . و إني آمل أن يرجع من سفره قريباً إن شاء الله و يختار لها اسماً فما انقضت إلا ثلاثة أيام حتى قدم رسول الله صلى الله عليه و آله من سفره و أتى دار ابنته فاطمة الزهراء عليها السلام على عادته - فقد كان صلى الله عليه و آله من عادته أنه إذا قدم من سفره كان أول من زاره هي ابنته فاطمة عليها السلام - فقال له أمير المؤمنين عليه السلام- : يا رسول الله إن الله قد وهب لابنتك فاطمة بنتاً فاختر لها اسماً . فقال صلى الله عليه و آله : إن ذرية فاطمة و إن كانوا ذريتي إلا أن امرهم إلى الله تعالى و إني انتظر وحي ربي في تسميتها . و إذا بجبرئيل عليه السلام ينزل من السماء على رسول الله صلى الله عليه و آله و يقول له : السلام يخصك بالسلام و يقول لك : سمّ هذا المولود زينب فقد كتبناه لها في اللوح المحفوظ . فضّمها رسول الله صلى الله عليه و آله إلى صدره و قبّل ما بين عينيها و سمّاها باسم زينب ثم قال : ليبلغ الحاضر من أمتي الغائب منهم بكرامة ابنتي هذه زينب فإنها شبيهة جدتها خديجة الكبرى .
زينب والحسين عليهما السلام ,,,,
اما النشأة فقد تربيا في حجر النبي الأكرم صلى الله عليه وآله الذي وصفه الله بالخلق العظيم والمرسل رحمة للعالمين، ورضعا لبان النبوة من بضعة النبي أمهما الزهراء(ع) سيدة نساء العالمين، وتعلما الحكمة والبلاغة والفصاحة في مدرسة وصي النبي أبيهما الإمام علي(ع) ورافقاه لحظة بلحظة وخطوة بخطوة، فأخذ الحسين فنون قيادة الانتصار في المعارك، وأخذت زينب فنون الحكمة و الصبر، فمن هنا كان لدم الحسين وقيد زينب أساس في البناء العامر والصلاح والإصلاح في أمة جدهما محمد(ص)، وانتشر تأثيرهما إلى باقي الأمم فهذا غاندي يقول: (تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوما فأنتصر).
من هذا كله نشأت فيهما روح التقوى التي ما أمر الله خلقه بكافة العبادات المفروضة من صلاة وصيام وحج وزكاة إلا من أجلها. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِير} فالحسين وزينب مدرسة التقوى في الكون كله أساسا ومنهجا ومسيرة.
ومن هذا كلِّه جُعلت فيهما روح عامرة في طاعة الله المطلقة نتج عنها سلوكية ومنهجية ومسيرة نضالية من أجل تعليم الخلق معنى النضال لأجل طاعة الله تعالى؛ فكُتب على الحسين القتل وكتب على زينب السبي فتدربا على ذلك طوال حياتهما وتهيآ بكامل الإرادة والتصميم إضافة لما يمتلكانه من نشأة متميزة...
نعم... تهيآ في إعطاء الخلق دروسا في الطاعة والتربية والسلوكية والمنهجية في المثول لإرادة الله تعالى وإحقاق كلمته وكبح إرادة الباطل وإزهاقها إلى غير رجعة، وإن تظاهر الباطل بانتصار مزيف ووقتي يجلب له العار الدائم ويجلب العار كله على من يتّبعه ويروج له بأشكال مختلفة.
من هنا أنشأ الحسين عليه السلام ثقافة التضحية والمقاومة، وأنشأت زينب عليها السلام ثقافة الصبر والحكمة، بأداء مميز وفريد فأخذ منهما العالم كله كيف تبني الأمم عزتها وكرامتها وحريتها واستقلالها وديمقراطيتها من أُسُس هذه المدرسة الكونية والمرجعية الإلهية المستمرة الدائمة... مرجعية تملكت قلوبنا وأرواحنا وحواسنا مذ كنا أجنة في الأرحام فأصبحنا نعيش شعار الحسين وصوت زينب عليهما السلام في مراحل حياتنا كلها فمدرستهما أسست في الأرواح قبل العقول، وتفهمها المتتبع لأسس هذه المرجعية منذ النشأة... دخلت هذه المرجعية إلى الأعماق دون استئذان وتربعت على عروش القلوب دون انتخاب أو تصويت فتذوقنا من خلالها معنى الأمر الإلهي وتعلمنا من منهجيتها كيف يطاع الله وهذا ما جاء به أمر من الله عز وجل إلى النبي الأكرم صلى الله عليه وآله.
{ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ}، ومن هو أقرب إلى النبي من نفسه حيث وصف الحسين بقوله (حسين مني وأنا من حسين) (مسند ابن حنبل: ج4 ص172)، فمرجعية الحسين عليه السلام كانت بنص إلهي ومنها تتالت ذات المرجعية في سلالة الحسين بالأئمة من ولده التي نصب الله عز وجل السيدة زينب(ع) دون سواها في حمايتها ورعايتها وكفالتها بعد استشهاد الإمام الحسين(ع) في كربلاء، وليس ذلك لنسبها فحسب وإنما لكفاءتها فكان القرار الإلهي منذ نشأتها بأن تضطلع السيدة زينب(ع) بهذه المهمة التاريخية، فمن ذلك اليوم بذرت في التربة بذرة النقمة على الظلم، وحتمية النهوض لإبعاده والقضاء عليه، ومحاسبة مقترفيه.فكان خطاب السيدة زينب واحداً من عوامل تحريك التاريخ وتوليد طاقة التغيير اللازمة لإزاحة الواقع المعادي للإنسان... وأصبحت السيدة زينب المرجع الأعلى للناس في تلك المرحلة حتى تسليمها لمقاليد المرجعية إلى الإمام زين العابدين(ع) رمز الإمامة المقدسة... هذه هي قوة المرجعية في منهجية السيدة زينب المستمدة من قوة الله، لذلك بقيت ترسم في قلوب الخلق قبل قدومهم إلى الحياة الدنيا... مرجعية لها حول ولها قوة أطاعت الله حق طاعته فانطبق عليها قوله تعالى: (عبدي أطعني تكن مثلي أو مَثَلي تقل للشيء كن فيكون).
مرجعية مخيرة لا مسيرة تربعت على عروش القلوب وقادت الجماهير بإرادة وحكمة فقلدها المجتمع في حينه وقلدتها الأجيال بانصياع ورضى وقبول على هداية وإدراك وتفهم، وأصبح المتفهم المتذوق لطعم الهداية ملزما نفسه بهذا التقليد لأنه حرية للنفوس وديمقراطية في امتلاك القرار وصوابه والتزام حقيقي بشرائع السماء يتذوق من خلاله طعم العبودية لله دون سواه، وتحرير النفوس من عبادة الخلق والمخلوقات، وعدم الانسياق في ترهات التقييد والتحجيم لفكر الإنسان وانضوائه في حلقة مفرغة يتوه فيها عن رشده ويصبح في حالات من الشكوك والظنون والوسواس وبالتالي يهوي إلى الضياع والانحراف الفكري والعزلة بعيدا عن أي حركة سوى تلبية متطلباته وأموره المعاشية من مأكل ومشرب وكل ما يتعلق بالذات فقط...
نعم إن نضال الحسين وزينب بالتضحية الكبرى ما جاء إلا لمرضاة الله عز وجل: (إن كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضى) هذه هي زينب المقدسة وكذاك الحسين، فقراءة نضال الحسين وزينب قراءة واعية تمنح النفوس دروسا في النضال والكفاح لتحريرها من العبودية لغير الله عز وجل وتطهير الذات من أي تلوث خارجي يبعد فيه العبد عن المعبود وهذا ما أكده الإمام الحسين(ع) بقوله لجيش الردة: (إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحرارا في دنياكم وارجعوا إلى أحسابكم إذا كنتم أعرابا).
والسيدة زينب(ع) في قولها لعبيد الله بن زياد:
(الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه محمد، وطهّرنا من الرّجس تطهيراً، إنّما يفتضح الفاسق، ويكذب الفاجر، وهو غيرنا يا ابن مرجانة).
وللمتخاذلين الذين غرتهم الحياة الدنيا والذين وضعوا سنة البكاء تكفيرا عن جبنهم وانسياقهم وراء الباطل مفضلين زهوة الحياة الفانية على رضا الله تعالى بخطابها لهم:
(يا أهل الكوفة يا أهل الختل والغدر. أتبكون؟ فلا رقأت الدمعة ولا هدأت الرنة... إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا. تتخذون أيمانكم دخلا بينكم.. ألا وهل فيكم إلا الصلف والنطف، والكذب والشنف، وملق الإماء وغمز الأعداء، أو كمرعى على دمنة، أو كقصة على ملحودة.. ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون. أتبكون وتنتحبون ؟ إي والله فابكوا كثيرا واضحكوا قليلا... فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ولن ترحضوها بغسل بعدها أبدا وبعدا لكم وسحقا فلقد خاب السعي وتبت الأيدي وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من الله ورسوله وضربت عليكم الذلة والمسكنة... ويلكم يا أهل الكوفة!. أتدرون أيّ كبد لرسول الله فريتم؟.وأيّ كريمة له أبرزتم؟.وأيّ دم له سفكتم؟.وأيّ حرمة له انتهكتم؟.لقد جئتم شيئاً إدّا! تكاد السماوات يتفطّرن منه، وتنشقّ الأرض، وتخرّ الجبال هدّا!!.ولقد جئتم بها خرقاء، شوهاء، كطلاع الأرض، وملء السماء، أفعجبتم أن مطرت السماء دماً؟ ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون... فلا يستخفنّكم المهل، فإنّه لا يحفزه البدار، ولا يخاف فوت الثأر، وإنّ ربّكم لبا لمرصاد...).
وهنا يأتي دور السيدة زينب في الاستمرار بثقافة المقاومة من أجل إصلاح الأجيال بعد استشهاد الإمام الحسين ومواجهة صلف العدو وأحقاده بمراحل تربوية شكل جانبا تربويا فريدا بإعلام منظم وخطاب كان أبلغ من السيف وأحدّ، لذلك سارت السيدة زينب بخطوات ممنهجة وكلمات مدروسة لا تتعدى في تحديها للباطل إلا بانتقام موعود من الله وتربية حقيقية لنفوس مريضة استحقت التأديب الزينبي بعكس ما كان يقصده ويهدفه يزيد من دخول السبايا الى مجلسه بأن يستعرض قوته ، ويؤكد انتصاره ، ويوجه لأهل البيت ضربات جديدة من الأذلال والهوان .
فقد انعكس الأمر ، وتحول المجلس الى ساحة محاكمة لجرائمه ، وميدان معركة تكبد فيها هزيمة نكراء . . وفوجئ يزيد بحصول مالم يكن يتوقع ، وفقد السيطرة على نفسه ، ولم يعد يدري كيف يواجه الموقف ، بينما استمرت العقيلة زينب توجه له ضربات التحدي ، وسهام التبكيت والاحتقار
أقرأ ايضاً
- المسير الى الحسين عليه السلام، اما سمواً الى العلى وإما العكس
- زينب ..
- فلسفة الموت عند الإمام الحسين (عليه السلام)