- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
ديمقراطية سامة وتصلب شرايين سياسي
بقلم: كرم نعمة
سنجد ما هو أرذل من تعبير دينس هيلي، وزير المالية البريطاني عام 1979، المستاء من لوحة إعلانية كتب عليها “حزب العمال فاشل”، واتهم حزب المحافظين “ببيع السياسة وكأنها مسحوق صابون”.
فبينما يتهم فريق حملة الرئيس المنسحب من السباق الرئاسي جو بايدن وسائل الإعلام بأنها مذنبة، بترك دونالد ترامب يفلت من العقاب. نجد أن بايدن نفسه اشتكى في مقابلة متعثرة من أن الصحفيين يتجاهلون أكاذيب ترامب.
خذ مثلا غلاف مجلة “ذي نيوز ريبوبليك” الذي يصور ترامب بشارب هتلر فوق عنوان “الفاشية الأمريكية” بخط أحمر يذكرنا بالرايخ الثالث. الأمر الذي جعل الجمهوريون يتهمون وسائل الإعلام بخلق جو جعل العنف أمرا لا مفر منه.
ووصل الحال بعد دعم بايدن لنائبته كامالا هاريس لتكون بديلته في السباق نحو البيت الأبيض، إلى قول فريق حملة ترامب “ستكون هاريس أسوأ بالنسبة لشعبنا من جو بايدن. لقد كانت هاريس عامل التمكين الرئيسي لجو الفاسد طوال هذا الوقت. إنهما يملكان سجلات بعضهما البعض، ولا يوجد اختلاف بين الاثنين”.
هاريس بدورها تصر على عدم التوقف عن ملاحقة “المعتدين” و“المحتالين” وتعني في ذلك ترامب. فيما ذكرت جماعة من الحزب الديمقراطي أن سباق الانتخابات الرئاسية الأمريكية سيمنح الناخبين “خيارا بين مدعية عامة ومجرم”!
هكذا يتم بيع “الديمقراطية السامة” ليس كمسحوق صابون كما قال هيلي، وإنما أشبه بعلاج ظلَ طريقه منذ سنوات إلى مرض تصلب الشرايين السياسي المصابة به الولايات المتحدة.
لقد تم استخدام كلمتي “غير مسبوق” و”تاريخي” في كثير من الأحيان لوصف حالة السياسة الأمريكية في السنوات الأخيرة لدرجة أنها أصبحت عملة منخفضة القيمة، بعد محاولة اغتيال ترامب ثم تنحي بايدن عن السباق الرئاسي.
صحيح أن العالم لن يفكر باقتراح العلاج على الولايات المتحدة المريضة بديمقراطيتها، لكنه لا يمكن ألا يتأثر بما يحصل فيها. فسياسة أمريكا ليست محدودة بأراضيها ولا في بحارها، أنها تدس أصابعها في كل ما يجري في هذا العالم. بيد أن مزاعم دميتري بيسكوف المتحدث باسم الكرملين بأن تقلبات السياسة الأمريكية لا تمثل أولوية لروسيا. غير صحيحة على الإطلاق، فموسكو تراقب عن كثب التنفس السياسي في البيت الأبيض وخارجه.
كان خروج الرئيس بايدن من السباق الرئاسي صادما، لكنه لم يكن مستبعدا، وهو ما يجعل أعراض المرض السياسي ظاهرا للعيان داخل وخارج الولايات المتحدة، ولم يعد الأمر بحاجة إلى أطباء السياسة. الأمريكيون أنفسهم يشعرون بمرض ساستهم. الأمر الذي جعلهم يدركون على مدى العقد الماضي مدى تأثير القرارات الفردية على مؤسساتهم الديمقراطية.
لقد تغيرت الأمور بسرعة كبيرة منذ محاكمة ترامب بتهم الفساد والتحرش الجنسي ومن ثم محاولة اغتياله وبعدها تنحي بايدن عن السباق الانتخابي، لدرجة أن لا أحد يستطيع حقًا فهم الوضع الذي تعيش فيه السياسة الأمريكية وما تعنيه هذه الفوضى: هل تتفكك الأمور، أم أن هذه فترة صعبة تسبق ظهور المزيد من الأعراض؟
يمكن للأمريكيين أن يروا الهشاشة في الأنظمة التي تحكم حياتهم، كما يمكن للعالم فهم ذلك بمجرد معرفة مصدر إطلاق النار على ترامب، ماذا لو قُتل؟ في أعقاب تلك الصدمة، لم يكن هناك أساس متين يمكن الرجوع إليه. دع عنك الكلام الكثير عن الديمقراطية، فهي نظريات جميلة حلمَ بها الرجال الأقوياء الذين كتبوا الدستور الأمريكي قبل مئات السنين، لكنه لا أحد يستطيع اليوم حماية تلك النظريات أو الوصول إلى أدنى درجات ذلك الحلم الذي يتلاشى يوما بعد آخر.
لم يكن هناك الكثير من الأشياء التي كانت تشكل ضغوطًا شديدة في الآونة الأخيرة مثل حالة عدم اليقين المحيطة برئاسة بايدن وطبيعة السلطة الرئاسية. لقد أوضحت مناظرة السابع والعشرين من حزيران الماضي أن عمر بايدن قد تلاشى منه ومن كثير من داعميه. وإن الموقف لم يكن مفهوما أو مقدرا تماما، في روايات عدم التوازن واللحظات السيئة التي تلت ذلك. لقد كانت تجربة جماعية، إما تأكيدا لمخاوف الأمريكيين وقلقهم، أو صدمة للنظام.
لتعزيز قضيتهم، ضلل الجمهوريون الولايات المتحدة. فقد كرر المتحدث تلو الآخر الادعاء بأن أمريكا كانت أكثر أمانا والعالم كان أكثر أمنا عندما كان ترامب رئيسا. ولكن يمكننا أن ننظر إلى سجل ترامب لنرى الحقيقة. كانت أمريكا أكثر خطورة وكان العالم في حالة من الفوضى أثناء فترة حكم ترامب، ولم يتغير الحال في الولايات المتحدة ولا في العالم أثناء حقبة بايدن، وهذا يفسر لنا مكافأة نهاية الخدمة التي سيقدمها نتنياهو لبايدن في واشنطن وهو القادم من مجزرة دم الأطفال والنساء في غزة.
معضلة الديمقراطيين الآن هي كيف يمكنهم ترقية هاريس في عملية يُنظر إليها على أنها مفتوحة، بدلاً عن كونها عملية احتيال، ولكنها قد تتحول إلى فوضى وانقسام.
أما أولئك الذين لن يفسحوا المجال للجيل القادم سوف يجرفهم الزمن. كان الرئيس بايدن يأمل في تجاوز هذه القاعدة الحديدية التي تحكم كلا من البيولوجيا والسياسة، والرئيس الذي يتخفى وراء نظارات شمسية باهظة الثمن لا يخدع الناس لأنهم قادرون على قراءة التقويم وتأثير السنين، لذلك طالب الأمريكيون بقلب صفحة بايدن منذ عام أو أكثر. لكنهم أيضا لا يرون الحل أو الأمل في ترامب.
لا بايدن ولا ترامب ولا كاميلا يضعون البلاد فوق الذات، كما يزعمون، والدستور فوق الطموح الشخصي، ومستقبل الديمقراطية فوق المكاسب الزمنية. لكن الأمر في النهاية متروك للأمريكيين بعد أن اكتشفوا أن الديمقراطية ليست حقيقية، إن لم ينضح قعرها الآسن بالدماء التي سفكت في داخل وخارج الولايات المتحدة.
أقرأ ايضاً
- صفقات القرون في زمن الانحطاط السياسي
- ديمقراطية سامة وتصلب شرايين سياسي
- العراقيون يفقدون الثقة في الديمقراطية